بيئة الشاعر الشيخ علي كتّوب (طيّب الله ثراه)

أُضيف بتاريخ الخميس, 03/06/2021 - 03:51

بِيئَةُ الشَّاعِر


البِيئَةُ التّي وُلِدَ فِيهَا الشّاعِرُ الشَّيخُ عَلِي أَحْمد كتّوب، بِيئَةٌ لَهَا خَصَائِصُهَا الجُغْرَافِيَّةُ وَالتَّارِيخِيّةُ، شَأْنُهَا شَأْنُ كُلِّ بُقْعَةٍ مِنَ الأَرْضِ، نَشَأَ أَهْلُهَا عَلَى ثَقَافَةٍ وَدَرَجُوا عَلَى أَعْرَاف.

وَقَدْ رَأَيتُ الإِيْجَازَ فِي هَذِهِ المُقَدِّمَةِ لِئَلاَّ تُمَلَّ، فَأَلْمَحْتُ إِلَى سِيرَةِ الشَّيخِ وَأَحْوَالِ عَصْرِهِ إِلْمَاحًا، وَكَانَ مِنْ حَقِّ البَحْثِ الإِطْالَةُ لِقِلَّةِ مَا كُتِبَ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَشَفَى غَلِيلَ الرَّاغِبِ وَقَضَى حَاجَةَ الطَّالِب.

لَيْسَ سَرْدًا تَارِيخِيًّا مَحْضًا وَلا تَقْدِيمًا أَدَبِيًّا خَالِصًا، إِنَّمَا هُوَ نُثَارٌ مِنَ الأَمْرَينِ. 

مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلف إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِين وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلف، عَصْرُ المُتَرْجَمِ لَهُ، كَانَ عَصْرَ اضْطِرَاباتٍ وَحُرُوبٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلاَّ قَلِيلاً فِي أَواخِرِ أيَّامِهِ، رَحِمَهُ اللهُ.

مِنْ خَلْعِ السُّلْطَانِ عَبد الحَميد الثّانِي سَنَة 1909م، وَالحَربِ العَالَمِيّة الأُولَى سَنَة 1914 إِلى سَنَة 1918م، وَالاحْتِلالِ الفَرنسيّ مِنْ سَنَة 1920 إِلَى سَنَة 1946م، وَالحَرْب العَالَمِيّة الثَّانِية مِنْ سَنَة 1939 إِلى سَنَة 1945م.

وَمَا سُمِّي بِمَرْحَلَةِ الصِّرَاعِ عَلَى سُورِية مِنْ سَنَةِ 1946 إِلَى سَنَة 1957م.

إِلَى الوَحْدَةِ 1958ـ 1961، ثُمَّ الانْفِصَالِ، وَثَورَةِ البَعْثِ سَنَة 1963، وَحَرْب حَزيران سَنَة 1967إِلَى حَرْبِ تِشْرِين سَنَة 1973م.

وَلا رَيبَ أَنْ يَتَأَثَّرَ النَّاسُ بِمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ المُدَّةِ مِنَ اضْطِرَابِ الأَحْوَالِ وَضِيقِ العَيشِ؛ لأَسْبَابٍ مِنْهَا: المَجَاعَةُ وَالوَبَاءُ إِبَّانَ الحَرْبِ العَالَمِيّة الأُولَى، وَكَثْرَةُ الضَّرَائِبِ التّي كَانَتْ تُفْرَضُ عَلَى قِلَّةِ المَوَارِدِ وَمَحْلِ الأَرْضِ.1  

وَأَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُم بِالْتِمَاسِ المَعِيشَةِ أَكَثْرَ مِنِ اشْتِغَالِهِم بِطَلَبِ العِلْمِ إِلاَّ مَنْ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنَ الحَالِ وَوَفْرَةٍ مِنَ المَالِ.

وَمِنْ صُورِ المُعَانَاةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ اضْطِرَارُ النَّاسِ إِلَى الانْتِقَالِ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى لِطَلَبِ الرِّزْقِ.

مِنْ أَعْلامِ ذَلِكَ العَصْرِ الشَّيخُ عبد اللّطيف إِبراهيم،  طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ، وَمِمَّا أَرَّخَ بِهِ سِيرَتَهُ أَنَّهُ نَحْوَ سَنَةِ 1916م هَاجَرَ وَالِدُهُ وَأُسْرَتَهُ إِلَى مَدِينَة حِمْص؛ لِقِلَّةِ  الحُبُوبِ وَصُعُوبَةِ نَقْلِهَا مِنَ الدَّاخِل إِلَى السَّاحِل. 2  

وَكَانَ مِمَّا قَاسَاهُ النَّاسُ فِي تِلْكَ الحِقْبَةِ ظُلْمُ أُولِي الجَاهِ وَالزُّعَمَاءِ، وَمِنْهُ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ: كَانَ القَائم مَقام فِي صَافيتا قَبلَ الحَربِ مُحَمّد أفندي مصطفى الأنجا الذّي اشْتُهر بِالظُّلمِ الشَّدِيد حَتّى أَنْشَد الأَهَالِي فِيه القَصَائِد المُؤلِمَة، وَظَهَرَ المَثَلُ الشّعْبِي عَنْه: حُكم الأنجا بموت.

وَفِي سَنَة 1915 أَتَى الجَرَاد بِلاد صَافِيتا .... وَأَكَل الأَخْضَر وَاليَابِس، وَمَات الكَثِيرُ مِنَ الأَهَالِي جُوعًا.. 3  

وَكَانَ مِنْ آثَارِ الفَقْرِ تَعَسُّرُ العِلْمِ عَلَى طَالِبِهِ، وَمِنْ آثَارِ الحُرُوبِ أَنْ تَحُولَ بَينَ الطَّالِبِ وَبَينَ دِرَاسَتِهِ، عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ بَعْضُ أَعْلامِ تِلْكَ الحِقبَةِ مِمَّا يُصَوِّرُ أَحْوَالَ طَلَبَةِ العِلْم.

قَالَ الشَّيخ عبد اللّطيف إِبراهيم، طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ، فِي مُقَدِّمَةِ دِيوانِهِ:

(( فِي عَام ( 1330 هـ ) أَرْسَلَنِي وَالِدِي إِلَى قَرْيَة تلة الخضر لأُتَابِعَ دِرَاسَتِي عِنْدَ العَالِمِ الفَاضِل الشَّيخ يُونُس يُوسُف، فَدَرَسْتُ عِنْدَهُ مُدَّةً قَصِيرةً لَمْ أَتَمَكَّنْ مِنْ إِتْمَامِ دِرَاسَتِي بِسَبَبِ الحَرْبِ  العَالَمِيّة الأُولَى )) 4  

وَقَالَ الشَّيخ عَبد الهَادِي حَيدر، طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ فِي تَرْجَمَتِهِ لِنَفْسِهِ: 

(( دَرَسْتُ الأُولَى مِنْ سِلْسِلَة الشّرتُوني عَلَى يَدِ الأُسْتَاذ الشَّيخ عَلِيّ عبّاس ( بحوزة) بِمُنَاسَبَةِ هِجْرَتِهِ إِلَى قَرْيَتِنَا.....

وَلَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَةِ الأُسْتَاذِ الشَّيخ عَلِيّ عبّاس عِنْدنَا قَصِيرةً بِسَبَبِ الاحْتِلالِ الفَرنْسِيّ لَمْ تَتَسَنَّ لِي الدِّرَاسَةُ عَلَى يَدِهِ إِلاَّ الأُولَى مِنْ سِلْسِلَة الشّرتوني...)) 5  

وَفِي مُقَدِّمَةِ دِيوَان الشَّيخ مُحَمّد حَمدان الخَيِّر، طَيّبَ اللهُ ثَرَاهُ: 

(( حَدَّثَنَا الشَّاعِرُ فِي حَيَاتِهِ أَنَّهُ تَلَقَّى تَعْلِيمَهُ المُبَكِّرَ عَلَى يَدَي وَالِدِهِ، قُبَيلَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ فِي كُتَّابِ القَرْيَةِ الذّي تَرَدَّدَ عَلَيهِ سَنواتٍ قَلِيلةً فِي طُفُولَتِهِ الأُولَى ..)) 6  

وَفِي مُقَدِّمَةِ دِيوانِ الشَّيخ مَحْمود سُلَيمان الخَطِيب، طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ: 

(( دَرَسَ الشَّاعِرُ بَعْضَ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ مِنَ الآجُرُومِيّة وَالشّرتوني عَلَى يَد الشَّيخ حَمدان الخَطيب.... وَتَوَسَّعَ فِي مَعَارِفِهِ اللُّغَوِيّة عَلَى يَدِ عَلاّمة الجِيل آنذاك عُضْو المَجْمع العِلْمِيّ الشَّيخ سُلَيمان الأَحْمَد....

وَقَدْ فَرَضَ عَلَيه وَاقِعُهُ الاجْتِمَاعِيُّ المُرُّ صِرَاعًا مُسْتَمِرًّا مَع ذَلِك الوَاقِع، إِذْ كَانَ يَعِيشُ فِي أُسْرَةٍ كَبِيرةٍ لا تَمْلِكَ قُوتَ يَومِهَا )) 7  

هَذِهِ حَالُ نُخَبَةٍ مِنْ أَعْلامِ ذَلِكَ العَصْرِ عَلَى قِلَّةِ المَدَارِسِ وَقِلَّةِ الفَائِدَةِ مِنْهَا لِقِلَّةِ المُعَلِّمِينَ وَرَدَاءةِ المَنَاهِجِ. 8  

تَكَادُ تُمَثِّلُ صُورَةَ المُجْتَمَعِ، وَتُلْمِحُ إِلَى أَحْوَالِهِ، وَلَولا ضِيقُ المَقَامِ لأَغْنَى التَّوسُّعُ فِي إِيْرَادِ أَمْثَالِهَا.

عَلَى أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي آثَارِهِم، وَمِنْهَا هَذَا الدِّيوانُ الذّي أَلْمَعَ صَاحِبُهُ إِلَى تَصَرُّفِ الأَحْوَالِ وَشَدَائِدِ الأَيَّامِ، حَتَّى أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الخَصْمِ عَلَى عَادَةِ الشُّعَرَاءِ فِي وَصْفِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ.

وَمِنْ هَذَا البَابِ قَولُهُ: 

رَمَانِي زَمَانِي بِالهُمُومِ تَنُوشُنِي *** وَمَازِلْتُ بِالصَّبْرِ الجَمِيْلِ أُنَاضِلُ
وَكَادَ الأَسَى يَقْضِي عَلَيَّ وَأَوْشَكَتْ *** جُيُوشُ الرَّدَى تَنْتَابُنِي وَالجَحَافِلُ
وَأُمِّيَ وَيْحِي وَالعِيَالُ وَصِبْيَتِي *** وَكُلٌّ بِمَا يَسْطِيْعُ عَنِّيَ حَامِلُ
إِلَى أَنْ أَتَاحَ اللهُ لُطْفًا وَرَحْمَةً *** فَتىً مُحْسِنًا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّمَائِلُ


وَمِنْ لَطِيفِ مَا عَقَدَهُ مِنَ الكِنَايَةِ فِيْمَا رُوِيَ فِي كُتُبِ الأَدَبِ: وَقَفَتِ امْرَأَةٌ عَلَى قَيس بن سَعد بن عُبادة، فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَيكَ قِلَّةَ الجِرْذَانِ.
قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الكِنَايَةَ ! 
امْلأوا لَهَا بَيتَهَا خُبْزًا وَلَحْمًا وَسَمْنًا وَتَمْرًا. 9  

وَعَلَى هَذِهِ الكِنَايَةِ كَتَبَ الشَّيخُ إِلَى مُدِير نَاحية الدريكيش إِبَّانَ أَزْمَةِ الغِذَاءِ سَنَة 1966م،  بِأُسْلُوبٍ لَطِيفِ القَصَصِ.

أَمِيْرَةٌ جَاءَتْ إِلَى أَمِيْرِ *** وَافِدَةً بِقَلْبِهَا الكَبِيْرِ
تَشْكُو إلَيْهِ قِلَّةَ الجُِرْذَانِ *** فِي بَيْتِهَا وَكَثْرَةَ الغِلْمَانِ
وَمُذْ حَكَتْ قِصَّتَهَا كِنَايَهْ *** رَقَّ لَهَا وَاسْتَمَعَ الحِكَايَهْ
فَقَالَ: تُعْطَى السَّمْنَ وَالطَّحِيْنَا *** لِتُشْبِعَ البَنَاتِ وَالبَنِيْنَا
وَهَكَذَا الحَالُ مَع المُدِيْرِ *** عَسَاهُ أَنْ يَجُودَ بِاليَسِيْرِ
بِالحَبِّ وَالطَّحِيْنِ كِيْسًا كِيْسَا *** لِنُطْعِمَ العِيَالَ وَالغُرُوسَا
وَنَحْمَدَ الرَّزَّاقَ جَلَّ وَعَلا *** وَنَشْكُرَ المُدِيْرَ عَمَّا فَعَلا


وَمِنْ رِحْلاتِهِ التّي لَمْ أَبُتَّ تَارِيخَهَا إِلاَّ أَنَّهَا فِي الأَرْبَعِينِيَّاتِ عَلَى تَارِيخِ نَظْمِ القَصِيدَةِ سَنَة 1947م، مَا وَصَفَ بِهِ هِجْرَتَهُ مِنْ قَرْيَتِهِ إِلَى رِيف حِمْص، ثُمَّ رُجُوعَهُ مِنْهُ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ، إِلَى قَريَتِهِ البَيضَاء.

فِي قَولِهِ:   

وَبَعْدُ نَزَحْتُ عَنْ بَيْتِي قَدِيْمَا *** وَفَارَقْتُ الموَالِيَ وَالحَمِيْمَا
إِلَى بَلَدٍ أَقَمْتُ بِهِ سِنِيْنَا *** عَزِيْزًا بَينَ قَومٍ مُؤْمِنِيْنَا
بِأَنْعَامٍ وَخَيْرَاتٍ كَثِيْرَهْ *** إِلَى التَّحْنَانِ وَالذِّكْرَى مُثِيْرَهْ
رَخَاءٌ وَابْتِهَاجٌ وَازْدِهَارُ *** نَهَارٌ جَاءَ يَتْلُوهُ نَهَارُ
زَمَانٌ صَفْوُهُ أُنْسٌ وَبِشْرُ *** وَدَهْرٌ حُلْوُهُ طَيٌّ وَنَشْرُ
بِهِ الآمَالُ تَسْرِي وَالأَمَانِي *** تَسِيْرُ إِلَى الأمَامِ بِتَرْجُمَانِ
وَفَاضَ الرَّبْعُ يَا بُشْرَى سُرُورَا *** وَبَاتَ الكُلُّ مِنْ طَرَبٍ قَرِيْرَا
وَظَلَّ الخِصْبُ يَهْمِي وَالثَّرَاءُ *** وَلَكِنْ يُعْقِبُ الصُّبْحَ المَسَاءُ
وَرَاعَت إِذْ رَعَتْ سَنَةٌ جَدِيْدَهُ *** مَرَاعِيْنَا بِوَطْأَتِهَا الشَّدِيْدَهْ
فَعُدْنَا مِنْ بِلادِ الشَّرْقِ نَسْعَى *** إِلَى البَيْضَاءِ أَرْبَعَةً وَتِسْعَا
وَعَائِلَةُ الأَخِ المَحْمُودِ تَتْبَعْ *** لِعَائِلَتِي ثَلاثًا ثُمَّ أَرْبَعْ
فَبِتْنَا وَالأَسَى مِلءُ القُلُوبِ *** لأَنَّ المَاءَ أَمْسَى فِي نُضُوبِ

 

  • 1تاريخ سورية 1908 ـ 1918، د علي سلطان، دار طلاس\دمشق، ط2\1996م، سورية في التاريخ، كمال ديب، المكتبة الشرقية، ط1\2017م.
  • 2التراث الأدبي للعلاّمة الشّيخ عبد اللطيف إبراهيم 1\14.
  • 3تاريخ صافيتا في العهد العثماني 378، منير عبد الحميد صقر.
  • 4التراث الأدبي للعلاّمة الشّيخ عبد اللطيف إبراهيم 1\14.
  • 5تأبين ومقتطفات 15.
  • 6ديوان الشاعر الشيخ محمد حمدان الخير1\42.
  • 7ديوان الخطيب 8.
  • 8المَدَارس الابتدائِيّة فِي قَضاء صافيتا سَنَة 1914م، أَرْبعُ مَدَارِس. تاريخ صافيتا.
  • 9العقد الفريد 1\276، ابن عبد ربّه الأندلسي، أحمد أمين، إبراهيم الأبياري، عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي\بيروت\بلا تا.