13- التربية لا تُغني عن الدين.

أُضيف بتاريخ الأحد, 18/07/2021 - 09:30

13- التربية لا تُغني عن الدين.

أقول: يُعجبني ما ورد عن جرجي زيدان في أحد مقالات الهلال، وكما نقله العلّامة الشيخ يعقوب الحسن عنه، قال:

قد يظن البعض أنّ التربية تُغني عن الدّين! وهذا بعيدٌ عن الصّواب، لأنّ الإنسان ميّالٌ بطبيعته إلى حُب الذات والطّمع، فإذا لم يقم من نفسه ما يردعُهُ، اشتغل بسلب أموال الناس، لا يُبالي بما يُقاسونه.

والدين هو الرّادع الوحيد لتلك المطامع، ولا نُنكر أنّ بعض المُعطّلين يحرصون على منافع سواهم وحِرصهم على منافعهم الشخصية، ولكنّهم نفرٌ قليلٌ، ولا نظنّهم يفعلون ذلك إلّا من آثار التربية التي رضِعوها مع اللبن قبل أن أطلقوا لأفكارهم العنان، وحجدوا الدين، وأنكروا الأديان.

وقد يحتجّون، أنّ بُسطاء الناس لا علم ولا أدب عندهم يردعانهم عن فعل المُنكر، ولو تأمّلوا لرأوا العلم كثيرُا ما يزيد الشّرّير شرًّا، لأنّه يُساعده على التفنّن في شرّه، كما هو موجود عند عالم اليوم في الغرب والشرق، وهمّهم الوحيد إيجاد وسائل تدمير العالم.

وإنَ التديّن وحُسن العقيدة ضروريّان لقِوام الهيئة الاجتماعية، وأسعدٌ الأُمم حالًا أحسنُها عقيدةً، وأكثرها خوفًا من العقاب، وطمعًا بالثواب.

ومِمّا يحسن ذكره في هذا البحث أنّ بعض الذين لم يُدركوا من العلم إلّا قليلًا يسبق إلى أذهانهم أنّ الكُفر من ضروريّات العلم فلا يَرَونَ ثَمَّ حاجةٍ إلى الإقرار بقوّة الخالق، ولكن لو سألتهم عن مُبدع هذه الكائنات وواضِعِ تلك النّواميس، بل لو كلّفتهم حَلّ أصغر تلك الغوامض، لَضاقوا ذَرْعًا، ووقفوا حَيارى مبهوتين. ولو أنّهم استوعبوا العلم، وتوسّعوا فيه ونظروا في نظام هذا الكون نَظَرَ البصير، لباتوا حَيارى ولم يَرْتَح لهم بالٌ إلّا بالاقرار بخالقٍ عظيم يخافه السلطان على عرشه، ويلتجئ إليه الصّعلوك في ضيقه وفقره، ويكفي من الدين حفظ علائق النّاس بردع الأشرار عن شرّهم وإيقاف المُستبدّين عند حَدّهم.

وقد يظُنُّ آخرون أنّ الحكومة -السلطة الحاكمة- تُغني الناس بما تسُنّهُ من القوانين القاضية بعقاب الجاني، ورَدّ القوي عن الضّعيف، ولكنّها لا تحكم إلّا بما يبدو لديها من أعمال النّاس ومهما بلغ من تيقّظِها وعدالتها، فإنّها لا ترُدّ من الحقوق إلّا قطرةً من بحر لأنّها لا تطّلع إلّا على جُزءٍ صغيرٍ من الحوادث.

فكم في طَيّ الكتمان من المُنكرات التي يرتكبها البشر ولا رقيب عليهم، وكم في عالم الغيب من سرقات زمظالم وفظائع ارتكبها بعض الناس ولم يعلم بها أحد سواهم، وكم تحت التراب من أعمال ذهب أصحابها ولم تزل سِرًّا مكتومًا في عالم الخفاء ولا تزال إلى الأبد.

فالحكومة الحاكمة هي الوازع الأصغر الثانوي، وأمّا الوازع الأكبر الرئيسي فهو الدّين، فأمّا الحكومة أو السلطة فهي تحكم على ظواهر الأعمال، وأمّا ما بَطُنَ منها فلا رادع يردعه غير الضمير المُغَذّى بلبان الدّين؛ ذلك القاضي الصارم الذي لا يقبل الرّشوة ولا يعرف التمليق، وهو القانون الذي لا يقبل التأويل ولا التحوير، فيُصدِر حُكمَهُ على صاحبه ويُوَبِّحَهُ في خَلَواتِهِ على ذنبٍ لم يُباشِر به بعد.

وما الضّمير الحَيّ إلّا نتيجة التّربية الدينية، وهو إذا تَغَذَّى بلبان الأدب أغنى الحُكّامَ عن جنودهم، والقُضاةَ عن شرائعهم وقوانينهم، وكفى به حاكمًا مُنتقمًا، وقاضيًا عادلًا، وإنّ القضاة والقانون لا يغنيان عن حُكم الضّمير شيئًا؛ يكفيك دليلٌ على ذلك اختلاف الناس في نصوصهم أمام القضاة، واختلاف القُضاة فب البَتّ في قضيّةٍ واحدة. (انتهى قول جرجي زيدان)

أقول: والذي يبدو لي من هذا القول وغيره مِمَّا نَصّ عليه أصحاب الضّمائر الحَيَّة من أهل الدّرايَة العارفين بحقائق الأمور، المُتمسّكين بأحكام الشريعة، كما جاء بها الشّارعُ المُقَدّس بأنّ الدين هو المُنَظّم الوحيد لحياة الإنسان في بيته وأسرته ومُجتمعه.

وليس هو القانون الذي تسنّهُ لجنة تأسيسيّة مُثقّفة من الهيئة الاجتماعية، فقد تتغيّر الأحوال فتتغيّر هذه اللجنة وتُعَدِّل من الأنظمة والقوانين أو تنسخها بقانونٍ جديد تسُنُّهُ أو تُعَدِّل بعضها أو فقرات من ذلك القانون المسنون نظرًا لاختلاف الزمان وتطوّر الإنسان. أمّا الدين فهو القانون العدل، والحَكَمُ الفصل الإيجابي ولا يُداري لأنّه صادرٌ عن عالم السّر وأخفى، يعلم الزمان منذ الأزل وإلى الأبد وحتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

(وفي هذا الزمان -مع الأسف- نرى البعض من الذين تذوّقوا من العلم شيئًا، وهُم أهل هذا الدّين أوّل ما يعلق بأوهام أكثرهم أنّ عقائدهُ خرافات، وقواعده وأحكامه تُرّهات، ويجدون لذّتهم في التشبيه بالمستهزئين مِمَّن سَمُّوا أنفسهم أحرار الأفكار وبُعَداء الأنظار! وإلى الذين قصّروا هِمَمَهُم عن تصفّح أوراق من كتبه، ووسموا أنفسهم بأنّهم حُفّاظ أحكامه، والقِوام على شرائعِه، كيف يُجافونَ علوم النّظر ويهزؤون بها، ويرَوْنَ العمل فيها عبثًا في الدين والدنيا، ويفتخر الكثير منهم بجهلها، كأنّه في ذلك قد هَجَرَ مُنكرًا، أو ترفّع عن دنيئة!؟

فمن وقف على باب العلم من المسلمين تجد دينه كالثوب الخلق، يستحي أن يظهر به بين الناس، ومن غَرَّتهُ نفسهُ بأنّه على شيء من الدين، وأنّه مستمسكٌ بعقائدهِ يرى العقل جِنَّةً والعِلم ظِنَّةً..!! أليس في هذا ما يشهد الله وملائكته والناس أجمعين على أن لا وفاق بين العلم والعقل وهذا الدّين؟؟!!.)1

  • 1الشيخ محمد عبده: رسالة التوحيد ص158 وما بعدها.