كلمة في شيء بين العلم والدين.. فكل ما يثبته العلم، أخضع له، لأنه وجه من وجوه الخضوعِ لله... مناهج شيوخنا في الموافقة بين البحث العلميّ وبين الوحي..

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 16/02/2016 - 11:46

كَلِمَةٌ فِي شَيءٍ بَيْنَ العِلْمِ وَالدّيْن

( تكتونية الصفائح )

( حُبّ العِلْم هو الذّي أشاع الاضطراب والبلبلة في العالم ) 1

بِسْمِ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ... الذّي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الفِكْرَ يَتَطَوَّرُ كُلَّ مُدَّةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيْعِيٌّ، وَمَا مِنْ نَظَرِيَّةٍ مُسْتَقِرّةٍ فِي العِلْمِ، فَالتَّارِيْخُ تُغَيِّرُهُ الكُشُوفُ، وَالفِيْزيَاء يُغَيِّرُهَا الكَشْفُ عَنْ قَوَانِيْن جَدِيْدةٍ.

قَال كيوسي إيتو:

(( لا شَيءَ مُسْتَقِرٌّ، حَتّى الرّيَاضِيّات، فَهِيَ لا تَخْشَى التّصَدّي للغُمُوض الحدسِيّ... وَالعشوائيات.. العِلْمُ الذّي يُطَبِّقُ حِسَابَ الاحْتِمَالات عَلَى الأَعْدَادِ التّي يَحْصُلُ عَلَيْهَا عِلْم الإِحْصَاء، لإِثْبَاتِ وُجُودِ القَوَانِيْن النّاجِمَة عَنْ أَسْبَابٍ دَائِمَةٍ وَمُنْتَظَمةٍ يَنْضَمّ تَأْثِيْرُهَا إِلَى تَأْثِيْر الأَسْبَاب الطّارِئة...)) 2

والنَّاسُ فِي الإِعْجَازِ العِلْمِيّ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُم من يرى الوحيَ مُقَيّدًا بِزمَنِهِ، فَالقُرْآنُ فِي رَأْيِهِ كِتَابُ حِكْمَةٍ وَمَواعِظ، وَلَيْسَ كِتَابَ فيزياء ولا رياضيات، وَمِنْهم مَن يَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ لِكُلّ زَمَانٍ.

فَذَهَبَ بَعْضُهُم إِلَى أَنَّ الإِعْجَازَ العِلْمِيَّ فِي القُرْآن وَهْمٌ وَأُكْذُوبَةٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُم إِلَى خِلافِ ذَلِكَ.

وَالذّي أَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لا إِشْكَالَ فِي الأَمْرَيْنِ، سَوَاءٌ أَوَجَدْنَا فِي القُرْآنِ دَلِيْلاً عَلَى الإِعْجَازِ العِلْمِيِّ، أَمْ لَمْ نَجِدْ، وَذَلِكَ أَنَّنَا إِذَا لَمْ نَجِدْ فِيْهِ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ دَلِيْلاً عَلَى خُلُوِّهِ مِنْهُ، وَإِذَا وَجَدْنَا وَأَنْكَرَهُ بَعْضُنَا وَرَضِيَهُ بَعْضُنَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيْلاً عَلَى شَيءٍ مِنَ الضَّعْفِ فِيْهِ.

وَذَلِكَ لأَنَّ الوَحْيَ وَالعِلْمَ، أَي: مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ، وَمَا سَيَصِلُ إِلَيْه، يَرْجِعُ إِلَى شَيءٍ وَاحِدٍ، قَدِ اخْتَلَفَ النَّاس فِي تَسْمِيَتِهِ، وَلَكِنّهم لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وُجُودِهِ، كُلُّنَا يَعْتَرِفُ بِقُوَّةٍ تَحْكُم القَوَانِيْن، فَبَعْضُنَا يُسَمّيْهَا الحَقِيْقَة، وَبَعْضُنَا يُسَمّيْهَا الفَرَاغ الفِيزيائِيّ، وَبَعْضُنَا يَسْتَعْمِلُ فِي تَسْمِيَتِهَا التّوقِيْفَ.

عَلَى مَا ذَكَرَ كَثِيْرٌ مِنَ العُلَمَاءِ، مِنْهُم الدكتور فاليري سينيلنيكوف:

(( تَوَصّلَ العُلَمَاء... إِلَى قَنَاعَةٍ مُفَادُهَا أَنَّ الكَونَ عِبَارَةٌ عَنْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ طَاقَةٍ نَقِيّةٍ تَتَمَتَّعُ بِوَعْيٍ ذَاتِيٍّ لا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهَا، تُسَمَّى هَذِهِ الطَّاقَةُ بِأَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ.... لَكِنْ مَهْمَا تَبَدَّلَتِ التّسْمِيَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلاَّ تَسْمِيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِمُسَمّى وَاحِدٍ.. إِنَّهُ أَصْلُ كُلِّ الأَشْيَاءِ...)) 3

وَأَظُنُّ أَنَّ سَبَبَ التَّنَازُعِ فِي هَذَا، إِنَّمَا هُوَ شُعُورُ العُلَمَاءِ بِالاسْتِخْفَافِ بِهِم، وَشُعُورِ المُفَسِّرِيْنَ بِالأَمْرِ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّ الكَشْفَ العِلْمِيَّ لَمْ يَكُنْ للاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا للتَّنَازُعِ فِيْهِ.

وَعَلَى هَذَا فَسَوَاءٌ أَكَانَتْ زَحْزَحة القَارّات نَاشِئَةً عَنِ البَرَاكِيْن أَو الزّلازل، وَكَيْفَمَا كَانَتْ ( تكتونية الصّفائح ) حَرَكَةً تَبَاعُدِيّة أو تَقَارُبِيّة، فَكُلُّ مَا يُثْبِتُهُ العِلْمُ، أَخْضَعُ لَهُ، لأَنَّهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوه الخُضُوعِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَوَاءٌ أَوَجَدْتُ لَهُ دَلِيْلاً مِنَ الوَحْيِ، أَمْ لَمْ أَجِدْ.

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الآيَةَ التّي تَدُلُّ عَلَى حَرَكَةِ الجِبَالِ: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ النمل88

وَمَا وَصَلَ إِلَيْهِ العُلَمَاء، شَيءٌ وَاحِدٌ فِيْمَا أَرَى، والذّي يُهِمُّنِي هُوَ مَا انْتَفِعُ بِهِ مِنَ العِلْمِ، وَلَيْسَ الجَدَلُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ الأَمْرِ فِي الوَحْي، وَكُلُّ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَهُوَ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَاللهُ يَخْتَارُ مَنْ يُرِيْدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ، وَكُلُّ مَنْ نَفَعَ البَشَرِيَّةَ بِشَيءٍ فَهُوَ فِي اعْتِقَادِي مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، عَلَى أَيِّ رَأْيٍ كَانَ، وَفِي أَيِّ مَدْرَسَةٍ كَانَ.

فَقِيْمَةُ الإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ بِهِ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِانْتِسَابِهِ إِلَى مَذْهَبٍ مَا، وَلا إِلَى مَدْرَسَةٍ مَا، وَفِي هَذَا قَولُ الشّيخ عبد اللّطيف إِبْراهيم:

وَمَا قِيْمَةُ الإِنْسَانِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا *** يُقَدِّمُهُ مِنْ صَالِحٍ للرَّعِيَّـةِ..
بِتَوْجِيْهِهَا نَحْو الفَضِيْلَةِ وَالعُـلا *** وَبَثِّ شُعَاعِ العِلْمِ وَالمَدَنِيَّةِ..
وَإِسْدَاءِ مَعْرُوْفٍ وَإِسْعَافِ بَائِسٍ *** وَتَخْفِيْفِ آلامٍ عَنِ البَشَرِيَّةِ..
مَظَاهِرُ فَضْلِ اللهِ بَيْنَ عِبَـادِهِ *** عَلَى مُقْتَضَى أَلْطَافِهِ السَّرْمَدِيَّةِ.. 4

وَالإِلْقَاءُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ النحل15
لا يُبْطِلُ شَيئًا مِنَ العِلْمِ، لأَنَّهُ لا يَنْفِي حَرَكَةَ الجِبَالِ، وَمَا يُثْبِتُهُ العِلْمُ يَشْهَدُ لَهُ البُرْهَانُ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الآلاتِ، وَلَيْسَ بِغَيْرِهِ.

وَهَذَا مَا عَرَفْتُهُ مِنْ مَنَاهِجِ شُيُوخِنَا فِي المُوَافَقَةِ بَيْنَ البَحْثِ العِلْمِيِّ وَبَيْنَ الوَحْي، وَمِنْ ذَلِكَ قَولُ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيْمَان أَحْمَد:

إِنْ يُثْبِـتِ العِلْـمُ شَيئًـا لا أُكَـابِرُهُ *** وَالدِّيْـنُ مَنْهَلِـيَ الأَحْلَى الذّي أَرِدُ
لا ضَيْرَ إِنْ طَالَتِ الأَكْوَانُ أَو قَصُرَتْ *** فَصَـانِعُ الكُـلِّ مِنْهَـا وَاحِدٌ أَحَـدُ 5

وَلَيْسَ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ نُنْكِرَ مَا لا نَعْلَمُ، فَالعَالِمُ هُوَ الذّي يُقِرُّ بِجَهْلِهِ وَلَيْسَ الذّي يَفْتَخِرُ بِهِ، وَمَنْ لا يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلاً، وَعَلَى هَذَا كَانَ تَعْرِيفُ العَالِمِ وَالجَاهِلِ فِي كَلامِ مَولانَا أَمِيْرِ المُؤْمِنِين (ع) أَنَّ العَالِمَ:

((.. مَنْ عَرَفَ أَنَّ مَا يَعْلَمُ فِيْمَا لا يَعْلَمُ قَلِيْلٌ، فَعَدَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ جَاهِلاً، فَازْدَادَ بِمَا عَرَفَ مِنْ ذَلِكَ فِي طَلَبِ العِلْمِ اجْتِهَادًا، فَمَا يَزَالُ للعِلْمِ طَالِبًا، وَفِيْهِ رَاغِبًا، وَلَهُ مُسْتَفِيْدًا، وَلأَهْلِهِ خَاشِعًا، وَلِرَأْيِهِ مُتَّهِمًا، وَللصَّمْتِ لازِمًا، وَللخَطَأِ حَاذِرًا، وَمِنْهُ مُسْتَحْيِيًا، وَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مَا لا يَعْرِفُ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لِمَا قَرَّرَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الجَهَالَةِ.
وَإِنَّ الجَاهِلَ مَنْ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَا جَهِلَ مِنْ مَعْرِفَةِ العِلْمِ عَالِمًا، وَبِرَأْيِهِ مُكْتَفِيًا، فَمَا يَزَالُ للعُلَمَاءِ مُبَاعِدًا، وَعَلَيْهم زَارِيًا، وَلِمَنْ خَالَفَهُ مُخَطِّئًا، وَلِمَا لَمْ يَعْرِفْ مِنَ الأُمُورِ مُضَلِّلاً.

فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الأُمُورِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَنْكَرَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، وَقَالَ بِجَهَالَتِهِ: مَا أَعْرِفُ هَذَا، وَمَا أَرَاهُ كَانَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ يَكُوْنَ، وَأَنَّى كَانَ؟.

وَذَلِكَ لِثِقَتِهِ بِرَأْيِهِ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِجَهَالَتِهِ، فَمَا يَنْفَكُّ بِمَا يَرَى مِمَّا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ رَأْيَهُ مِمَّا لا يَعْرِفُ، للجَهْلِ مُسْتَفِيْدًا وَللحَقِّ مُنْكِرًا، وَفِي الجَهَالَةِ مُتَحَيِّرًا، وَعَنْ طَلَبِ العِلْمِ مُسْتَكْبِرًا.))
6

وَفِي هَذَا، قَال الشّيخ سُلَيْمَان أَحْمد:

لا تَنْسُبُوا إِنْ جَهِلْتُم أَصْل َحَـادِثَةٍ *** إِلَى القَضَاءِ لِضَعْفِ الهَمِّ وَالفِكَرِ
فَقُـدْرَةُ اللهِ جَـلَّ اللهُ صَـالِحَـةٌ *** أَنْ يُوْلَدَ النَّاسُ مِنْ أُنْثَى بِلا ذَكَرِ
لَوْ كَانَ فِي الكَوْنِ شَيءٌ لا نِظَامَ لَهُ *** إِذًا لِجَازَ اسْتِوَاءُ العُرْفِ وَالنُّكُرِ
وَإِنَّمَـا كُلُّ شَيءٍ نِيْـطَ فِي سَبَـبٍ *** فَقِسْ مِنَ العَالَمِ العُلْوِيِّ وَافْتَكِرِ
لا تُنْكِـرُوا كُلَّ مَا لَمْ تَعْلَمُـوا فَلَكُم *** أُضِيْعَ بِالجَحْدِ مَعْنىً جِدُّ مُبْتَكرِ 7

ثُم الحمد للهِ رَبّ العَالَمِين..

تمام أحمد
15\2\2016

  • 1كتاب تشوانغ تسو
  • 2مستقبل العلم ص 43
  • 3كتاب أسرار العقل الباطن..
  • 4التُّرَاثُ الأَدَبِيُّ للعَلاَّمَةِ الشَّيْخ عَبْد اللَّطِيْف إِبْرَاهِيْم 1\92.
  • 5كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 171\دار الفرقد\دمشق\ط2\2010
  • 6 بحار الأنوار مج31\19.
  • 7كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 168