كلمةُ أبرشيَّة حماه وتوابعها للرّوم الأرثوذوكس في أربعين الشيخ عبد الهادي حيدر رحمة الله تعالى ورِضوانه عليه.

أُضيف بتاريخ الأثنين, 07/08/2017 - 07:18

كلمةُ أبرشيَّة حماه وتوابعها

للرّوم الأرثوذوكس

مجلس رعيَّة السقيلبية

أيُّها الحفلُ الكريم، اللهُ معكُم.

لا بُدَّ لي من كلمةٍ أقولوها، لا بداعي واجبٍ مفروضٍ، بل عملًا بواجِبٍ مُستَحَبٍّ يُمليه شُعورٌ عميقٌ بما للفقيد من الحَقّ أن يُقال في يومِ ذِكراه، كلمةُ حقٍّ، كلمةُ حقٍّ فيمَن عرفتُهُ، وكُنتُ وإيَّاهُ على وِدٍّ مُقيم واتّصالٍ وثيق وتفاهُمٍ روحِيٍّ مُتبادَل.

لم يكُن يدورُ في خَلَدي أنِّي سأكونُ من المُؤَبِّنينَ في إحياء ذِكرى الفقيد الشيخ "عبدُ الهادي" .

ما كُنتُ أدري أنَّ هذه الشُّعلَة التي سطعَت في سماء هذه المنطقة ستنطفِئ هكذا سريعًا.ما كُنتُ أُصَدِّقُ أنَّ ذلكَ القلبَ الكبيرَ سيتوقَّفُ فجأةً عن نبضاتِهِ، لكنّ للهِ أحكامًا لا تُدرِكُها عُقولونا القاصِرَة، يَعُزُّ عليَّ أن أقِفَ هذا المَوقِفَ بالذّاتِ لأرثي مَن أحبَبْتُ، فإن عجز لساني عن توفية الفقيد حقّهُ، فإنَّ في لُغةِ القُلوبِ ما يُعَبِّرُ أجملَ تعبيرٍ عمّا تعذَّرَ على لُغةِ الكلام.

أيُّها الأعزَّاء

لقد هَزَّت هذه الفاجعةُ مشاعرنا لأننا فقدنا معكم شيخًا جليلًا، ومُصلِحًا فاضِلًا، ومُرشِدًا حكيمًا، حَمَلَ طيلةَ سنينَ عديدةٍ رسالةَ المحبَّةِ، رسالة الخِدمة، خدمةُ هذا الشّعب روحيًا، وقاد السفينة التي أوكِلت إليه قيادتُها بحزمٍ وعزمٍ إلى شواطئ النّمُوّ والإزدهار.

فإن ذَكَرتَ التقوى كان لها الفقيد مِثالًا، وإن ذكرتَ الفضيلةَ كان لها الفقيد نموذجًا، وإن ذكرتَ الطَّهارَةَ كانَ لها عُنوانًا، وإن ذكرتَ الإنسانيةَ كان لها خادمًا، وإن ذكرتَ الوطنية كان لها من الرّعيل الذي لم يرضَ لوطنهِ غير الحُريّة والسّيادة، جاهدَ كثيرًا، وتعِبَ كثيرًا، وبعد هذا التّعبِ والجِهاد المرير ظمِئَت نفسُهُ واشتاقت إلى ديار الخُلود، ديار الرّب. لذلك وإن مات بالجسدِ فإنَّ في مآثره حياةٌ لا تموت، وسنظل نحفظُ له الذِكرى الطيّبةَ بالتقدير.

مَن هو الشيخ عبد الهادي؟...

هوَ ذو السيرة الحميدةِ والسُّمعَةِ الطيّبة، هو المُتَجَمِّلُ بالطهارةِ والتواضعِ ورَحابةِ الصَّدر، هو الصّادِقُ في القول المُخلِصُ في العمل، هو الذي لم يعرف البغضاءَ والغرور والكذب والإدِّعاء، هو الدّاعي إلى المحبة الإنسانيّة ونبذ التفرقة والتمييز الطائفي، ومَن اجتمَعَت إليه هذه الخِصال الجليلة فهوَ كاملٌ وجَليلٌ معًا.

هُوَ رجُلُ الدِّينِ الأمثَل، هو رجُلُ الله، أليسَ هو مُمَثِّلُ الإيمان على الأرض، أليست قُوَّتُهُ قوّةُ الحق، وشخصُهُ شخصُ الوَقار.

نَعَم، إنَّ لشيخنا الرَّاحِلِ من الصِّفاتِ الحسنةِ ما أَهَّلَهُ أن يكونَ قائدًا وراعيًا للنفوس، إنَّ هذا النّوعَ من رِجالات الله لهُوَ أكثرُ حُزنًا وأكثرُ فرحًا من الناس إذ هو يضحكُ مع الضّاحكين ويبكي مع الباكين، يشعُرُ أنّهُ أبٌ للجميع، يحِنُّ ويعطِفُ على الجميع بلا استثناء، فهو سعيدٌ إذَن إن هُم فرِحوا، وكئيبٌ إن هُم حزِنوا، فطوباهُ لأنَّهُ كان مثال الطُّهر والعَفاف، طوباهُ زنبقةً فاحَت في حقل الفضيلة، إنَّ السماء لمثلهِ مُفَتَّحَةُ الأبوابِ، فإن لم تكُن السماءُ له فلمن تكون! وإذا لم يكُن الخُلودُ له فمن هم الخالدون!..

مَن مَرِضَ ولَم يكُنْ الشيخُ إلى جانبِهِ يضرعُ إلى الله من أجل شفائه، ومَن حَزِنَ ولم يكُن عِندَهُ يُواسيه، مَن فرِحَ ولم يُشاطِرُهُ فرحه، مَن تألَّمَ ولم يشعُر بألَمِه، من لاذَ به ولم يُسعِفهُ بكلّ ما يملكُ من عزاءٍ ونصيحةٍ وإرشاد، كم من مرَّةٍ وقف يُصَلِي من أجل السلام في العالم، من أجل المرضى، من أجل الذين هم في الضائقات.

كم تَعِبَ ليُريحَ سِواه، كم سَهِرَ ليَنامَ الناسُ، كثيرًا ما يُرى ساكتًا صابرًا لا يتململُ ولا يشكو ولا يضُنُّ بأمرٍ عرف فيه الخير لإخوانه ولكل الناس، ومع هذا مسكينٌ رجُلُ الدّين يُشتَمُ فيُبارِك، يُضطهَدُ فيحتَمِل، يُشنَّعُ عليه فيتضرَّعُ، فمُصيبتنا لفقد الشيخ مُصيبةٌ أليمةٌ أورثتِ الجميعَ دموعًا وأشجانًا وآلامًا، وتعزيتُنا أنّهُ قضى وهو رافعٌ لواءَ التضحيةِ، لواءَ البِرِّ والإحسانِ والتَّقوى.

قضَى الشيخُ وذِكراهُ باقيةٌ بهذه المآثر الرائعة، وهي أَلْسِنَةٌ ناطقةٌ تشهدُ بما كان عليه الفقيد من ذكاءٍ واجتهادٍ ومروءةٍ وإباءٍ، فإذا ما بكيناه فإنّما نبكي إنسانًا ما أحجمَ عن خدمة هذا الوطن بكُلّ ما أوتِيَ من قوّةٍ، فهنيئًا له بهذه السُّمعَةِ الأخلاقيّةِ العَطِرَةِ التي تركها وراءه، وهنيئًا له بهذا الإحترام الذي فرضه على كل من عرفه أو سمع به، وهنيئًا لنا نحن الذين نعِمنا بمعرفته.

ما يُعَزِّينا أنّهُ ظلَّ حاملًا رسالتهُ حتى انطفأت جذوةُ الحياةِ في جسمه دائبًا على العَطاءِ حتى آخر دفقةِ دمٍ في عروقه، لقد أدّى رسالته في الحياةِ على خير ما يُؤَدّيها إنسانٌ عاملٌ في هذه الدُّنيا، ولكُلٍ مِنَا رسالته، وقيمةُ المرء بقدر الوفاء لهذه الرسالة.

رحمهُ الله ميِّتًا في الجسد، حيًّا في الرّوح، خالدًا بمآثره وفضائِلِهِ، فلا تبكوا الفقيد يا أحبَّتي ولا تنوحوا عليه، فليس في بُكائكُم ولا في نَوحِكُم تكريمُهُ، إنَّ تكريمَهُ في أن تأخُذوا منه، فخذوا من صفاته العالية، خذوا مما في نفسه من العطش إلى الحق، فالشيخ لم يمت لكن روحه طارت إلى الفضاء الأعلى لتصل إلى عالم النّور والبَهْجَة، ولتتبوَّأ المكانَ الذي أعدَّهُ اللهُ لها، لم يمُت لكنّه آثرَ سُكنى الفردوس فارتقى صاعدًا إلى هُناك تبكيه الأرض حيث تستقبله السماء بدموع الفرح والغِبطَة، فالشيخُ لم يمُت، فهو حَيٌّ في قلوبنا، حَيٌّ في عواطفنا، حَيٌّ في أرواحنا، حيٌّ في ذُرِّيَّتِهِ، حيٌّ في اللهِ الذي لا يموت.

فإلى رحمة الله أيها الأخ الحبيب، وعزاءً يا آلِهِ، وكُلُّنا آلُهُ وأصدقاؤه لأنَّ من كان مثل فقيدنا لا يموت، بل يظل شخصُهُ مرسومًا في القلوب مدى الآباد.

وخِتامًا أرجو قبول تعازِيَّ مشفوعةً بتعازي أبناء إخوانكم في مدينة السُّقَيَيْلبِيَّة الذين كلّفوني بحملها إليكم، مُنطلقين من مبدأ "الدين لله والوطن للجميع"، كما جئتُ أحمِلُ إليكم تعازِي سيادة مُطراننا مطران حماه وتوابعها السيّد "إيليّا صليبا" الذي أمرني أن أنوب عنه بتقديمها إليكم لتغيُّبِهِ عن مركز الأبرشية لأمرٍ هام.
والسلام