مقدمة تحف العقول لـ الحسن بن شعبة الحرّاني

أُضيف بتاريخ السبت, 25/07/2020 - 07:50

 

الحمد لله الذي جعل الحمد له من غير حاجة منه إلى حمد حامديه، طريقًا من طرق الاعتراف بلاهوتيته وصمدانيته وربانيته، وسببًا إلى المزيد من رحمته، ومَحَجّةً للطالب من فضله1 ومكّن في إبطان اللفظِ حقيقة الاعتراف لبِرِّ إنعامه2  فكان من إنعامه: الحمد له على إنعامه، فناب الاعتراف له بأنّه المُنعم عن كل حَمْدٍ باللفظ وإن عَظُم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً بزغت عن إخلاص الطوي3  ونطق اللسان بها عبارة عن صِدْقٍ خفي، إنه الخالق البارئ المُصَوِّر له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء، إذ كان الشئ من مشيئته وكان لا يشبهه مكونه.

أشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، استخلصه في القدم على سائر الأُمم، على علمٍ منه بانفراده عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس، وانتجبه آمرًا وناهيًا عنه4 ، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه، إذ لا تُدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار، ولا تمثله غوامض الظنن5  في الأسرار، لا إله إلا هو الملك الجبار، وقرن الاعتراف بنبوته بالاعتراف بلاهوتيته، واختصه من تكرمته6  بما لم يلحقه فيه أحد من بريّته وهو أهل ذلك بخاصته وخَلته7  إذ لا يختص من يشوبه التغيير ولا من يلحقه التنظير، وأمر بالصلاة عليه مزيدًا في تكرمته وتطريقًا لعُترته8 ، فصلى الله عليه وعلى آله وكرّم وشرّف وعظّم مزيدًا لا يلحقه التنفيد ولا ينقطع على التأبيد.

وإنّ الله تبارك وتعالى اختص لنفسه بعد نبيه خاصة عُلاهم بتعليته، وسما بهم إلى رتبته، وجعلهم9 (...) إليه والأدلاء بالإرشاد عليه، أئمةً معصومين فاضلين كاملين، وجعلهم الحُجَجَ على الورى ودُعاةً إليه، شفعاء بإذنه، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يحكمون بأحكامه ويَستنون بسُنته ويُقيمون حدوده ويُؤدّون فروضه، لِيَهْلك من هَلك عن بيّنة ويَحيَى من حَيَ عن بيّنة، صلوات الله والملائكة الأبرار على محمد وآله الاخيار. 

وبعد 

فإني لما تأمّلت ما وَصَلَ إليَّ من علوم نبينا ووصيه والأئمة من ولدهما صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته، وأدَمْتُ النظر فيه والتدبّر له، علمت أنه قليل مما خرج عنهم، يسير في جنب ما لم يخرج، فوجدته مشتملاً على أمر الدين والدنيا وجامعًا لصلاح العاجل والآجل، لا يوجد الحق إلا معهم، ولا يُؤخذ الصواب إلا عنهم، ولا يُلتمس الصدق إلا منهم.

ورأيتُ من تقدّم من علماء الشيعة قد ألّفوا عنهم في الحلال والحرام والفرائض والسنن ما قد كتب الله لهم ثوابه، وأغنوا من بعدهم عن مؤونة التأليف، وحملوا عنهم ثقل التصنيف، ووقفت مما انتهى إلي من علوم السادة  على حِكَمٍ بالغةٍ، ومواعظ شافيةٍ، وترغيبٍ فيما يبقى، وتزهيدٍ فيما يفنى، ووَعْدٍ ووعيدٍ، وحضّ على مكارم الأخلاق والأفعال ونهي عن مساويهما، وندب إلى الورع وحث على الزهد.

ووجدت بعضهم  قد ذكروا جُمَلاً من ذلك فيما طال من وصاياهم وخطبهم ورسائلهم وعهودهم، ورُوِيَ عنهم في مثل هذه المعاني ألفاظٌ قَصُرَت وانفردَت معانيها وكَثُرَت فائدتها، ولم ينته إليّ لبعض علماء الشيعة في هذه المعاني تأليفٌ أقف عنده، ولا كتابٌ أعتمد عليه وأستغني به يأتي على ما في نفسي منه. فجمعتُ ما كانت هذه سبيله وأضفت إليه ما جانسه وضاهاه وشاكله وساواه من خبرٍ غريبٍ أو معنًى حَسَنٍ متوخيًا10  بذلك وجه الله - جل ثناؤه - وطالبًا ثوابه، وحاملاً لنفسي عليه، ومؤدبًا لها به11 ، وحملها منه على ما فيه نجاتها شوق الثواب وخوف العقاب، ومُنَبِّهًا لي وقت الغفلة، ومُذَكِّرًا حين النسيان، ولعله أن ينظر فيه مؤمنٌ مُخلصٌ فما عَلِمَهُ منه كان له درسًا وما لم يعلمه استفاده فيُشركَني في ثوابِ من عَلِمَهُ وعَمِلَ به، لما فيه من:

  • أصول الدين وفروعه،
  • وجوامع الحق وفصوله،
  • وجملة السُنَّة وآدابها،
  • وتوقيف الأئمة وحكمها،
  • والفوائد البارعة،
  • والأخبار الرائقة12 .

وأتيت على ترتيب مقامات الحجج عليهم السلام وأتبعتها بأربع وصايا شاكلت الكتاب ووافقت معناه.

وأسقطتُ الأسانيد تخفيفًا وإيجازًا، وإن كان أكثره لي سماعًا، ولأنّ أكثره آداب وحِكَم تشهد لأنفسها، ولم أجمع ذلك للمُنْكِرِ المُخالف بل ألَّفتُهُ للمُسَلِّمِ للأَئِمَّةِ، العارف بحقّهم، الراضي بقولهم، الراد إليهم. وهذه المعاني أكثر من أن يُحيط بها حصرٌ، وأوسع من أن يقع عليها حظرٌ، وفيما ذكرناه مقنع لمن كان له قلب، وكاف لمن كان له لب. 

فتأملوا معاشر شيعة المؤمنين ما قالته أئمتكم  وندبوا إليه وحَضّوا عليه. وانظروا إليه بعيون قلوبكم، واسمعوه بآذانها، وعُوهُ بما وهبه الله لكم واحتج به عليكم من العقول السليمة والأفهام الصحيحة، ولا تكونوا كأنداكم13  الذين يسمعون الحُجَجَ اللازمة والحِكَم البالغة صفحًا، وينظرون فيها تصفحا14 ، ويستجيدونها قولاً ويعجبون بها لفظًا، فهم بالموعظة لا ينتفعون ولا فيما رغبوا يرغبون ولا عما حذروا ينزجرون، فالحجة لهم لازمةٌ والحسرة عليهم دائمة. بل خذوا ما ورد إليكم عمّن فرض الله طاعته عليكم، وتلقوا ما نقله الثقات عن السادات بالسمع والطاعة والانتهاء إليه والعمل به، وكونوا من التقصير مشفقين وبالعجز مُقِرِّين.

واجتهدوا في طلب ما لم تعلموا، واعملوا بما تعلمون ليوافق قولكم فعلكم، فبعلومهم النجاة وبها الحياة، فقد أقام الله بهم الحجة وأقام15  بمكانهم المَحَجَّةَ وقطع بموضعهم العُذر، فلم يدعوا لله طريقًا إلى طاعته ولا سببًا إلى مرضاته ولا سبيلاً إلى جنته إلا وقد أَمَروا به وندبوا إليه ودَلّوا عليه وذكروه وعرفوه ظاهرًا وباطنًا وتعريضًا وتصريحًا، ولا تركوا ما يقود إلى معصيةِ الله ويُدني من سَخَطِه ويُقرب من عذابهِ إلا وقد حذَّروا منه ونَهُوا عنه وأشاروا إليه وخَوَّفوا منه لئِلا يكون للناس على الله حجة، فالسعيد من وفّقه الله لاتبعاعهم والأخذ عنهم والقبول منهم، والشقي من خالفهم واتخذ من دونهم وليجةً16  وترك أمرهم رغبةً عنه إذ كانوا العُرْوَة الوُثْقى وحَبْلَ الله الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالاعتصام والتمسّك به، وسفينة النجاة ووُلاة الأمر، الذين فرض الله طاعتهم فقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 17 والصادقين الذين أمرنا بالكون معهم، فقال: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ 18 .

واجتهدوا في العمل بما أمروا به صغيرًا كان أو كبيرًا، واحذروا ما حَذَّروا قليلاً كان أو كثيرًا، فإنه مَنْ َعِمَل بصِغار الطاعات ارتقى إلى كِبارها، ومن لم يَجتنب قليل الذنوب ارتكب كثيرها. وقد رُوِيَ: " اتقوا المُحَقَّرات من الذنوب وهي قول العبد: ليت لا يكون لي غير هذا الذنب19 ". 

وروي: " لا تنظر إلى الذَّنْبِ وصِغَرِهِ ولكن انْظُر مَنْ تَعْصي به، فإنَّهُ الله العلي العظيم ".

 فإن الله إذا علم من عبده صِحَّةَ نِيَّتِهِ وخُلوصَ طَوِيَّتِهِ في طاعته ومحبته لمرضاته وكراهته لسخطه وَفَّقَهُ وأعانَهُ وفَتَحَ له مَسامِعَ قلبِه وكان كل يومٍ في مَزيدٍ فإنَّ الأَعْمال بالنِّيَّات. 

وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال، وسَدَّدَنا في المَقال، وأعاننا على أمر الدنيا والدين، وجعلنا الله وإياكم من الذين إذا أُعْطوا شَكَروا، وإذا ابْتُلوا صبروا، وإذا أساؤوا استغفَرُوا، وجعل ما وَهَبَهُ لنا من الإيمان والتوحيد له والائتمام بالأئمّة مُستقرًّا غيرَ مُستوْدَع20  إنّه جواد كريم. 
 

  • 1المَحَجَّة: جادَّةُ الطريق. 
  • 2في بعض النسخ [ الاعتراف له بأنعامه ]. 
  • 3البزوغ: الطلوع، بزغت الشمس: طلعت. والطوى: الإضمار والاستتار. 
  • 4اِنتجبه: اِختاره واصطفاه. 
  • 5كذا. (*) 
  • 6من كَرُمَ، أي عَظُمَ. والتّكريم: التّعظيم.
  • 7- بفتح الخاء - أي بخصوصيته وخصلته. أو -بضم الخاء- بمعنى الصداقة. والأول أظهر. وفى بعض النسخ [ لا يخص ].
  • 8طرق له: أي جعل له طريقًا. 
  • 9فيه سقط؛ ولعل الساقط " نُدَباء ". (*). والأدلاء: جمع دليل أو الدال وهو المرشد إلى المطلوب. وفي الزيارة الجامعة الكبيرة في وصف الائمة عليهم السلام: "السلام على الدعاة إلى الله والأدلاء على مرضات الله" إذ هم يَدُلّون الناس على المعارف الإلهية والأحكام الشرعية.
  • 10في بعض النُّسَخ [ مُتَوَجِّهًا ]. 
  • 11أي: كُنت مُؤَدِّبًا لنفسي بسبب تِلْكُمُ المواعظ.
  • 12البارعة: مونث البارع، من برع، أي: فاق علمًا أو جمالاً أو فضيلةً أو غير ذلك من الأوصاف. والرائق من الروق: الفضل من الشئ. (*) 
  • 13النَّديدُ من النِّد، وهو الضِّدُّ والنّظير - والمراد به ههنا الأول. 
  • 14في بعض النُّسَخ [ صفحًا ]. 
  • 15كذا والظاهر: أنار. 
  • 16الوليجة: البِطانة. 
  • 17النساء - 58. (*)
  • 18التوبة - 120. وفى "الكافي" ج 1 ص 208، عن البزنطي عن أبى الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ  قال: هم الأئمة والصديقون بطاعتهم. وقال صاحب "الوافي": لعل المراد أنّ الصادقين صنفان صنف منهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) ، والآخر المُصدقون بأن طاعتهم مُفترضة من الله تعالى. 
  • 19في "الكافي" باب "استصغار الذنب" ج 2 ص 287، عن زيد الشحام قال: ​​​​​​​قال أبو عبد الله (عليه السلام): "اتقوا المُحَقَّراتِ من الذنوب فانها لا تُغْفَر". قلت: وما المُحَقَّراتُ ؟ قال: الرجل يُذنِبُ الذَّنب فيقول: طوبى لي لم يكن لى غير ذلك!. ويأتى أيضا في باب مواعظ أبي محمد العسكري (عليه السلام) من هذا الكتاب قوله (عليه السلام): " من الذنوب التى لا تُغْفَر: لَيْتَني لا أُؤاخَذُ إلّا بهذا ". 
  • 20أي: إيمانًا مستقرًا غير مستودع. (*)