القبس الثاني من مقدمة كتاب نظرات في كتاب (منهج المسلمين العلويين عقيدة وشريعة وتصوفا) بقلم فضيلة الشيخ تمام أحمد.

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 14/02/2024 - 22:00

القارئ الكريم، إذا قرأت القبس الأول من المقدمة فها نحن في إدارة المكتبة الإسلامية العلوية، نضع بين يديك القبس الثاني منها، راجين لكم كل فائدة..

مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ الكِتَابَ قِرَاءَةَ مُتَدَبِّرٍ، وَتَأَمَّلَهُ تَأَمُّلَ مُتَبَصِّرٍ، وَجَدَ فِي أَثْنَائِهِ مَا يُخِيفُ وَيُفْزِعُ، وَفِي مَطَاوِيهِ مَا يُؤْلِمُ وَيُوجِعُ، (( وَمَا أَدْرِي وَسَوفَ إِخَالُ أَدْرِي )).

وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بَعْدَ قِرَاءَتِهِ وَمُلاحَظَةِ مَا يُؤمِئُ إِلَيهِ أَنَّ الغَرَضَ مِنْ تَصْنِيفِهِ اسْتِدْرَاجُ القَارِئِ إِلَى تَسْمِيَةٍ جَدِيدَةٍ بِتَدْرِيبِهِ عَلَى كَلِمَاتٍ مُسْتَحْدَثَةٍ، وَعِبَارَاتٍ مُنَمَّقَةٍ، يُمَرِّنُ عَلَيهَا سَمْعَهُ، وَيُرَوِّضُ بِهَا لِسَانَهُ، وَمَنِ اعْتَادَ شَيئًَا اسْتَطَابَهُ وَاسْتَحْلاهُ.

وَلا يَتَعَدَّى ذَلِكَ احْتِمَالَينِ: إِمَّا أَنَّهُ تَنَاسَى عَمْدًا، وَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى آثَارِ عُلَمَائِنَا فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا ـ وَلا أَتَّهِمُهُ، وَلا أَظُنُّ بِهِ إِلاَّ خَيرًا ـ فَقَدْ دَفَعْتُ عَنْ مَذْهَبِي، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا، فَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى خَطَئِهِ، وَفِي الحَالَينِ أَدَّيتُ مَا أَرَاهُ عَلَيَّ وَاجِبًا.

إِذَا حَمَلْتُهُ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ، أَقُولُ: لَقَدْ حَاوَلَ أَنْ يُثْبِتَ تَمَيُّزَ العَلَوِيِّينَ مِنْ بَقِيَّةِ الفِرَقِ، غَيرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَيفَ يُمَيِّزُهُم، فَذَهَبَ يَمِينًا وَشِمَالاً، وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لِنَتَائِجِ كَلامِهِ، فَأَخْرَجَهُم مِمَّا هُم فِيهِ، وَأَدْخَلَهُم فِي نِسْبَةٍ تَهْدِمُ أَسَاسَ بُنْيَانِهِم، وَتُحَطِّمُ أُصُولَ أَرْكَانِهِم.

وَأَوَّلُ مَا يَلْحَظُهُ المُتَأَمِّلُ مُحَاوَلَةُ إِقْصَاءِ الصِّفَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى الهَامِشِ وَتَغْلِيبُ صِفَةِ التَّصَوُّفِ عَلَى سَائِرِ جَوَانِبِ الفِكْرِ العَلَوِيِّ، وَهَذِهِ أَوَّلُ خُطْوَةٍ فِي طَرِيقِ إِخْرَاجِ العَلَوِيِّ مِنْ مَدْرَسَتِهِ الوَلائِيَّةِ، وَتَنْحِيَةِ نِسْبَتِهِ الأُولَى، وَتَغْيِيبِ أُصُولِ مَذْهَبِهِ؛ لِيَتَنَاسَى جُهُودَ عُلَمَائِهِ فِي بَقِيَّةِ المَجَالاتِ الفِكْرِيَّةِ، وَأَهَمُّهَا كُتُبُهُم فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَوثِيقِ النِّسْبَةِ إِلَى المَذْهَبِ الجَعْفَرِيِّ وَتَأْكِيدِهِ، عَلَى مَا سَيَظْهَرُ مِنَ التَّعْقِيبِ فِي مَحَلِّهِ.

وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ أُسْلُوبٍ يُشْبِهُ فِي أَلْفَاظِهِ أَلْفَاظَ شُيُوخِنَا شَكْلاً، وَيَنْقُضُهَا مَعْنىً، وَيُرِيكَ مَا تُحِبُّ مِنَ التَّرَاكِيبِ الّتِي تَعْتَدُّ بِهَا نَفْسُكَ، وَمَا تَسْتَحْسِنُ مِنَ العِبَارَاتِ الّتِي يَطْرَبُ لَهَا سَمْعُكَ، غَيرَ أَنَّكَ لا تَسْتَحْلِي طَعْمَهُ إِذَا تَذَوَّقْتَ، وَلا تَسْتَعْذِبُ مَاءَهُ إِذَا وَرَدْتَ، فَلا يَزَالُ يَسْتَنْزِفُ وَلاءَكَ، وَيَمْتَصُّ انْتِمَاءَكَ، حَتَّى يَسْتَوعِبَ هُوِيَّتَكَ وَيُخْفِيَ نِسْبَتَكَ، وَ ((مَا أَشْبَهَ اللَّيلَةَ بِالبَارِحَهْ.)).

وَأَكْثَرُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذِهِ الظُّنُونِ مَا تَرَاهُ مِنْ تَبْدِيلِ كَلامِ شُيُوخِنَا بِإِحْلالِ الغَامِضِ المُعَمَّى مَحَلَّ الوَاضِحِ الصَّرِيحِ، وَمُحَاوَلَةِ تَعْدِيلِ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ المَفَاهِيم فِي أَذْهَانِ القُرَّاءِ، بِنَقْضِ مَا أَبْرَمُوهُ، وَتَشْتِيتِ مَا جَمَّعُوهُ.

وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِ الأَلْفَاظِ بِمُخَاطَبَةِ كُلِّ فِئَةٍ بِاصْطِلاحَاتِهَا، وَمُرَاعَاةِ المُتَعَارَفِ عِنْدَهَا؛ فَإنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْ إِهْمَالِ هَذِهِ الأُصُولِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِمَّا تَرَاهُ، وَأَبْعَدُ أَثَرًا مِمَّا تَظُنُّهُ.

وَأَوضَحُ مِثَالٍ لَهُ عِبَارَةُ ((الوَلاءِ الصَّحِيحِ))  الّتِي تُعَدُّ أَسَاسَ الهُوِيَّةِ المُعَبَّرِ عَنْهَا بِلَفْظَةِ ((العَلَوِيِّ))  فَإِنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ الوَلائِيَّةَ رَأْسُ أَسْمَائِهَا وَعَينُ انْتِمَائِهَا. وَكَفَى فِي الدِّلالَةِ عَلَى شَرَفِهَا الاكْتِفَاءُ بِهَا عَنْ كُلِّ نِسْبَةٍ، وَمِنْهُ قَولُ العَلاّمة الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد ((1868-1942م)):

وَدَعُوا الفَخْرَ بِانْتِسَابٍ قَبِيحِ***مِنْ صَرِيحٍ مِنْهُ وَغَيرِ صَرِيحِ
أَيُّ قُرْبَى مَا بَينَ جِسْمٍ وَرُوحِ***حَسْبُنَا نِسْبَةُ الوَلاءِ الصَّحِيحِ

للمَوَالِي وَالعِتْرَةِ الأَحْمَدِيَّهْ 1

وَمَنْ تَأَمَّلَ قَولَهُ: ((حَسْبُنَا نِسْبَةُ الوَلاءِ الصَّحِيحِ)). عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ تَقْضِي بِبُطْلانِ غَيرِهَا؛ لأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى غَيرِهَا تَعْنِي النِّسْبَةَ إِلَى وَلاءٍ غَيرِ صَحِيحٍ، بِدِلالَةِ المَنْطُوقِ عَلَى المَسْكُوتِ عَنْهُ.

وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا نِسْبَةٌ تَتَضَمَّنُ الدِّلالَةَ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ العَقِيدَةِ؛ وَلَولا ذَلِكَ لَمَا تَمَيَّزَ العَلَوِيُّ مِنْ غَيرِهِ، وَهَلِ اخْتَلَفَ القَومُ فِي مَعْنَى كَلِمَةٍ أَكْثَرَ مِنِ اخْتِلافِهِم فِي الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ..)) ؟. 

إِنَّمَا سُمِّيَ العَلَوِيُّ بِهَذَا الاسْمِ؛ لأَنَّهُ فَسَّرَ الوَلاءَ بِالإِمَامَةِ وَالعِصْمَةِ وَالنَّصِّ عَلَى الخِلافَةِ، وَفَسَّرَهُ آخَرُونَ بِالحُبِّ وَالنُّصْرَةِ.

وَمِنْ هُنَا كَانَتْ نِسْبَتُهُ وَلائِيَّةً، وَكَانَتِ الإِمَامَةُ أَصْلاً مِنْ أُصُولِ اعْتِقَادِهِ؛ لأَنَّ الوَلايَةَ تَكْفِي فِي الدِّلالَةِ عَلَى حُبِّ الإِمَامِ وَنُصْرَتِهِ، وَلَكِنَّ حُبَّ الإِمَامِ لا يَكْفِي فِي الدِّلالَةِ عَلَى مَعْنَى الوَلايَةِ، وَلَولا ذَلِكَ لَمَا قَسَمَ الأَئِمَّةُ مُحِبِّيهِم عَلَى ثَلاثِ طَبَقَاتٍ، وَلَمَا قَرَأْتَ قَولَ الإِمَامِ الصَّادِقِ : ((مِنْ أَيِّ مُحِبِّينَا أَنْتَ؟)). 

وَهَذَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ المُحِبِّينَ، وَلَكِنَّهُ لا يَقْتَضِي اسْتَوَاءَهُم فِيهِ، فَلأَيِّ صِفَةٍ تُحِبُّهُ ؟. وَكَيفَ تَنْتَسِبُ إِلَيهِ ؟.

أَلا تَرَى فَرْقًا بَينَ تَسْمِيَتِهِ انْتِسَابًا وَلائِيًّا وَبَينَ تَسْمِيَتِهِ انْتِسَابًا صُوفِيًّا ؟.

وَلِذَلِكَ تَمَسَّكَ أَعْلامُنَا بِتَسْمِيَتِهَا نِسْبَةً وَلائِيَّةً؛ إِشْعَارًا بِأَنَّهُم لا يَكْتَفُونَ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ حُبِّ عَلِيٍّ  كَغَيرِهِم، وَأَنَّهُم يَتَمَيَّزُونَ مِنْ مُحِبِّيهِ بِوَلائِهِ الدَّالِّ عَلَى إِمَامَتِهِ وَعِصْمَتِهِ بِالنَّصِّ الإِلَهِيِّ.

وَمِنْ لَمْ يُحَقِّقْ هَذِهِ الدَّقَائِقَ تَسَامَحَ فِيهَا وَأَغْمَضَ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَضَرُّ مَا يُصِيبُهُ فِي أُصُولِ اعْتِقَادِهِ مِنْ حَيثُ لا يَشْعُرُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ فِي ذَلِكَ الكِتَابِ تَسَاهُلاً وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ تَغْيِيرِ هَذِهِ النِّسْبَةِ وَتَمْزِيقِهَا، حَتَّى ذَهَبَ بِهِ إِلَى جَعْلِهَا صُوفِيَّةً وَعِرْفَانِيَّةً بَعْدَمَا كَانَتْ وَلائِيَّةً فِي أَصْلِ وَضْعِهَا.

إِنَّمَا هَذِهِ الوَلايَةُ؛ مِيْرَاثُ الخَلَفِ مِنَ السَّلَفِ، وَأَمَانَةُ الآبَاءِ للأَبْنَاءِ، وَلَهَا فِي عُنُقِ كُلِّ مُوالٍ عَهْدٌ يُوجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَصُونَهَا مِنَ الأَذَى حَتَّى يُوَرِّثَهَا كَمَا تَسَلَّمَهَا خَالِصَةً نَقِيَّةً.

وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ حَيدر مُحَمّد ((1895ـ 1991م)):

إِنَّ هَذَا تُرَاثَكُم فَاحْفَظُوهُ***فَبِهِ تَرْتَقُونَ مَتْنَ العَلاءِ
وَاتْبَعُوا إِثْرَ سَادَةٍ قَدْ تَسَامَوا***فِيهِ حَتَّى غَدَوا مَنَارَ اهْتِدَاءِ
أَوضَحُوهُ لَنَا كَمَا أَخَذُوهُ***سَالِمًا مِنْ مُكَابِرٍ أَو مُرَاءِ 2

وَعَلَى هَذَا مَضَى السَّابِقُونَ، وَتَعَاقَبَ الأَوَّلُونَ، وَمَنْ تَبَصَّرَ فِي آثَارِهِم رَأَى مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى حِفْظِ هَذِهِ النِّسْبَةِ الشَّرِيفَةِ مَا لَو تَفَطَّنَ لَهُ؛ لارْتَعَدَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا.


يُتبع... القبس الثالث من مقدمة كتاب نظرات في كتاب (منهج المسلمين العلويين عقيدة وشريعة وتصوفا)...

 

  • 1الإِمَام الشَّيخ سُلَيمان الأَحْمد ص129.
  • 2فِي رِحَاب الذّكرى ص336.