كلمة الشيخ حسين سعّود قده.. وفيها يتطرّق للحديث عن العلويين..

أُضيف بتاريخ الأحد, 10/05/2015 - 17:11
 

الحمدُ لله على صنائعهِ في خلقِهِ، وبركاتِهِ في رزقهِ، والصلاة على نبيّه الأمّي ورسوله العربي وآله الطاهرين، وبعد:

فلقد أَطلعني فضيلة الشيخ محمود الصالح مؤلف "النبأ اليقين" على ما كتبه عن الفِئة العلوية في بعض مراحلها التاريخية، وما استعرضه من سيرتها العِرقية والإعتقادية والبطولية والأدبية، وما رافق هذه المراحل من عواصف، وتَقاذَفها من أمواج، وكيف خلَصَت من هذه التيارات، ونَجَت من هذه الأمواج، مُحتفظةً بسلامةَ مَواريثها، وحَيَويّة مؤهلاتها، فخرجتُ من قراءاتي لِما كتبهُ هذا الفاضل وكأنّ عينيّ عدستا مُصَوّر صوّبَت حدقاتهما إلى ماضٍ بغيض مشحونٍ بالأحداث والفواجع، فانطبع فيهما ذلك الماضي بزمانه ومكانه، بمآسيه وعِبَرِه، بدمائهِ وأشلائه، بأبريائهِ وجَلاّديه.

ولم تكُن هذه الصورة المُتمثّلة لعَينَيَّ لتختلف في جزئياتها وإن اختلفت في كُلّياتها عن بقيّة الصُوَر التي ترسمها مُخَيّلةُ كُل مُتَتَبّع لتاريخنا العربي المُصطبغ بالألوان المُتعدّدة، والمُتخم بالنزوات المريضة، تلك الألوان والنزوات التي كانت تُهيّئُها شعوبية حاقدة، وتُنفّذها أجهزة فاسدة، وتذهب ضحيّتها فئة مُجاهدة.

ولا غرابة في ذلك إذا علمنا ما كانت عليه حال العرب في ماضيهم القريب من تفكّك وتخاذل وتحاسد وتنابذ، وما كان عليه أعداؤهم من تواطؤ وتكالب، ودَأبَ مُستمرٌ للقضاء على قوميتهم وتجريدها من جميع مُقدّساتها ومُقوّمات حياتها.

أمّا الغرابة كُلّ الغَرابة، فهي في أن يبقى في حاضرنا العربي الذي نعيشُ فيه أُذنٌ تصيخُ إلى ما يُروّجُهُ مُستعمرٌ مُتربّصٌ، أو انتهازيٌّ مُستغل، أو شُعوبي ناقِم، أو زنديق مُتنسّك.

وأغرب من هذا وذاك أن لا تُؤثّر تلك النواحي التاريخيّة في نفوس العرب تأثيرًا يُحفّزهم إلى النهوض المُسرع، واللحاق الحَثيث برَكب الحضارة العالمية، نُهوضاً يَهيبُ بنا جميعًا إلى انتزاع حقوقنا السليبة، ويُؤمِنُنا غائلةَ الغازين وبائقةَ المُغيرين.

أليسَ الأولى بنا مَعاشرَ العرب عامةً والمُسلمين خاصّةً بعد أن أخذنا عن الماضي نتائجه السلبية، وعِظاتهِ المُؤلمة، أن نجعل شِعار نهضتنا وعُنوان وَثْبَتِنا (الكلاب تنبح والقافلة تسير) وأن يكون تفكيرنا في الماضي لِمُجَرَّد أن نستمدّ منه مادّة بنائنا الحاضر لا أن نَفنى فناءً صوفياً لا تكونُ حَصيلتُهُ سِوى الخُمول فالانحلال فالتلاشي.

لقد أُحرِجَ العلويّ المِسكينُ في ماضيه، فَأُحْوِجَ إلى عُزلته، وإخفاء حقيقته، واستعمال تقيّته، وأفسحَ لدُعاةِ التفرقةِ وعُملاء السوء مَجالَ الدَّس والوَقيعة، وكانت مُفتريات المجالس، ومُفتريات الأقلام.

وأينَ هُوَ ذلك العلوي المُتواري عن الأنظار، المُغَيَّب في ظُلُماتِ الأقدار، فيَدرَأَ عن نفسهِ التُّهَمَ، وأَنَّى لقلمِهِ المُحَطَّم الناضِب أن يَخُطَّ صحائفَ براءة عروبته ودينِه وعِرضِه من هذه المُفتريات، وهل لمن حرمه الجبروت العُثماني من أبسط حقوق الإنسان إلاّ أن يصُمَّ أُذُنَيه ويُغمِضَ عَينَيه، مُستجيرًا برحمة الله، ومُتوسّلاً إليه بدقاتِ قلبه، مُترقبًا سطوع شمس الحُريّة ليَفتَحَ عَينيه للنور، ويَتَنَسَّمَ عَبيرَ العدالةِ الحُرَّةِ فيُدلي بدلوه بين الدِلاء، ويكون في مُجتمعه العربي لُبنةً في بِناء.

حاشى لله أن يكون ذلك العَلوي -كما يعلمه الله وكما يعلمه أحفادُهُ من طريق مُخلّفاته الفقهية وتقاليده الموروثة- مِمَّن يُدين بغير توحيد الله ، أو يستسنّ بغير سُنّة رسول الله ، أو يُولي وجهه في صَلاتِهِ لغير بيت الله، أو يأخذ أحكامه وفرائِضهُ وحلالهُ وحرامه من غير القُرآن كِتاب الله.

ولمّا كان الشيء بالشيء يُذكر أوَدُّ أن أورد قصّة مَثَلَ دورها في عهد الإنتداب الغاشم، إذ حضرَ أحدُ الحُكّام الفرنسيين البارزين عند شيخ من شيوخنا ولغرض في نفسه وجّه إليه السؤال التالي: ما هي حقيقة أنسابكم ومُعتقداتكم وأعيادكم وعاداتكم؟

فنهض الشيخ دون أن يُجيبه وتناول القُرآن الكريم من مكتبته المتواضعة وقال:

هذا هو القرآن الكريم كتاب الله يُجيبك عن جميع ما سألتني عنه، ففيه أنسابُنا، ومُعتقداتُنا، وأعيادنا، وعاداتنا.

فسكت ذلك المُستعمر وكأنّما ألقَمَهُ الشيخُ حَجَرًا.

والآن وقد امحى ظلام الأمس، وانبلج فجرُ اليوم، واتّضح لكُل ذي لُبٍّ، أنّ ما كُتبَ وما أُشيع بالأمس من تجريح عقيدة العلوي، أو تسفيهها، لم يكن إلاّ لغاياتٍ ملوّثة تَعافُها طهارة الإسلام، دين الأخوّة والمُساواة، ولم يبقَ بين ظهراني الأُمّة الواحدة ممّن أرجفوا بأباطيلهم، وتهرّبوا من مواجهة الحقيقة زمنًا طويلاً، من يُحاول التدخّل في خصوصيات المذاهب الأُخرى، إذ لكُلٍ منها فروعٌ واجتهاداتٌ يجب احترامُها.

وهَل من غَضاضةٍ على العلويّ المُسلم إذا قال في آذانه (حَيَّ على خير العمل) أو أسبَلَ كَفَّيهِ عند وقوفه لصَلاتِهِ، أو اشترط العدالة في الإمام المنصوب للصلاة، أو رأى مذهب إمامهِ جعفر أصفى المذاهب مع احترامهِ للمذاهِب الأُخرى، أو قال بأنّ الإمامة شرطٌ بعد النبوّة، أو طَبَّقَ على نفسه بعضًا من أحكام الزوجية والمواريث حال عدم تطبيقها على غيره. كلاّ وألفُ كلاّ، إلاّ إذا كان هناك إكراهٌ في الدين كالذي كان، ويَأبى اللهُ والإسلامُ والمُصلحون المُتحرّرون أن يكون.

ولقد أَثمَرَت بحمد الله جهود علماء الدين في الآونة الأخيرة، وعلى رأسهم جماعة التقريب، فأودوا جوًّا من الهدوء والثقة المُتبادلة، والترفّع عن الضغائن والجدل العَقيم، والتفرّغ إلى ما هو أَجدى، تمشّيًا مع إرادة الله تعالى بقوله:  وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ فتلاقوا بذلك على صعيد ذلك الصيّاد المُصَحَّر إذ رأى شبحاً فظنّه وَحشًا، وقَبلَ عن يرميه تبيّنهُ إنسانًا، فظنّهُ عدوًّا مُهاجمًا، وبعد التريّث قليلاً اتّضحَ له أنّه شقيقه ومُعينُهُ وشريكُهُ في سرّائه وضرّائهِ، فتعانقا.

ومن المُسَلَّم به يقينًا أنّ من يُضيئُ شمعةً خيرٌ مِمَّن يَسُبُّ الظلام، وها هو هذا المُؤَلّفُ الفاضلُ قد أنار بـ "نبئِهِ اليقين" شمعةً أزاحت ظلام القلوب والعيون والأسماع، وكشف الغِطاء عن كثيرٍ من خبايا زوايا التاريخ العلوي الماضي والمُعاصر، فكان بذلك عضوًا عاملاً في مُجتمعنا العربي الإسلامي الحُرّ، فلهُ منّي ومن كُلّ علوي خالص الشُكر، ومن الله سبحانه وافرَ الأجر.

جبلة.... حَلبَكّو....
حسين سعّود