الغدير، والوَلاية ليست مُنازعةً في أمر الخلافة، و إنّما اقتداء بالإمام.

أُضيف بتاريخ الأثنين, 19/09/2016 - 16:50
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
هذه الخُطْبَةُ الأُوْلَى من خُطْبَتَي الجُمُعَة 2\تشرين الاول\2015م:
الغدير، والوَلاية ليست مُنازعة في أمر الخلافة، و إنما اقتداء بالإمام.

في كُتُبُ السّيَرِ والتّاريخ أنّهُ يومَ رَجَعَ رسول الله بما عُرِفَ بِحَجَّةِ الوداع، بآخِرِ سنةٍ قبلَ أن يقبِضَهُ الله عز وجل إليه، كان هُناكَ ما عُرِفَ بواقِعَةِ الغَدير، يومَ أوقَفَ الرَّكْبَ وأَخَذَ بيَدِ أمير المؤمنين وقال: (اللهم من كُنتُ مَولاه فهذا عليٌّ مولاه) على اختلاف الألفاظ بحسب اختلافِ طُرُقِ الرِّوايَة، (اللهم والِ مَن والاه وعَادِ من عاداه، وانصُر مَن نَصَرَهُ واخْذُل مَن خّذَلّه).

واختلف النّاسُ منذُ ذلك اليوم في هذه الكلمة، في تفسير هذا الدُّعاء، (والِ مَن والاه) أنَّ الوَلاءَ هُنا على ما ذَهَبَ قومٌ هُوَ الحُبّ والطّاعَة والإجلال، وعلى ما ذهبَ آخرون هو الوِلايَة، يعني أن يكون لهُ منصِبُ الخليفةِ بعدَ رسول الله .

الجامعُ لهذين الأمرين سواءٌ أكان بالوَلايَةِ التي هيَ الحُبُّ والطَّاعَة، أو بالوِلايَةِ مَصْدَرِ الفِعلِ (وَلِيَ) كأن تقولَ إنَّ الأمير أو الحاكِمَ أو السُّلطان وَلَّى فُلانًا على مدينةٍ أو على قريةٍ.

فالوِلايَة ُالتي هي من المناصِبِ الدُنيَوِيَّة من أجلِ تنظيمِ شؤونِ النّاس ومن أجلِ أخذِ الحق لمن هو عاجزٌ عنه، ومن أجلِ العَدلِ والإنصاف، لها في كُتُب التاريخ وفيها اختلافٌ وتصادُمٌ كبير، إن كانت هذه الوِلايَةُ على هذا المَعنى.

بقيَ المَعنى الأوَّل والأصلُ الأوَّلُ للوَلاء الذي هُوَ الحُبُّ والطّاعةُ والنُّصرَةُ والتّعاوُن. مَلأ المؤلفون، وسلخَ المًسلمون أعمارهُم في النِزاع في أمرِ الخِلافة وفي أحقيَّةِ هذا وفي عَدَمِ أحَقِّيَةِ غيرهِ! وبُنِيَ على هذا من الفَتاوى وبُنِيَ عليه من الرّدود، ما سبَّبَ من الأحقاد ما سَبَّب، ومن الكراهيةِ ما سَبَّب.

ولو نظر ناظرٌ إلى كلام أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب  في هذا الأمر لتبيَّنَ له أنّهُ ما نازعَ أحدًا فيه، وأنَّهُ لم يُكَلِّف أحدًا أن يُقاتِلَ من أجلِهِ ولا أن يُحاربَ أحدًا من أجلِهِ، هو يقول: (ولقد عَلِمْتُم أنِّـي أَحَقُّ بها من غيري، ووالله لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين) في هذا حين قَدَّمَ أميرُ المؤمنين  مَصلَحَةَ الأُمَّةِ على مَصلَحَتِهِ (لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين)، فيذهبُ البعضُ ممّن يُريدُ أن يُحَرِّكَ عواطِفَ النَّاسِ ومشاعِرَهُم إلى استعمالِ بعضِ الكلماتِ التي لها أثرٌ في نُفوسِ النَّاس، كأن يقول: إنَّ لعَلِيٍّ ولأهلِ بيتِهِ وما لحِقَهُم من الظُلم ما يُسَوِّلُ له أن يتَّخِذَ شعار المَظلومية وأن يغفُوَ تحتها وأن يُؤَلِبَ الناس بهذا الشِعار ليحرّكهُم من أجل استرداد حقٍّ مسلوب!.

إذا كان صاحِبُ الحَقِّ قد نَزَلَ عنه وتركَهُ (لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين)، ثمَّ إذا كان الجَوْرُ فيها عليه خاصَّةً كما يقول (ولقد عَلِمْتُم أنِّـي أَحَقُّ بها من غيري، ووالله لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين، ولم يَكُن فيها جَوْرٌ إلّا عَلَيَّ خاصَّةً، التِماسًا لأجر ذلك وفَضْلِهِ، وزُهدًا فيما تنافستُمُوه من زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِه).

إذا كان الجَوْرُ عليه خاصَّةً فكيف يُصَدَّقُ مَن يقول أنَّ الظُلمَ كان في زمَنِهِ عامّاً!..

ثمَّ إنَّهُ يقول (ولقد أصبَحَت الأُمَمُ تخافُ ظُلمَ رُعاتِها، وأصبحتُ أخافُ ظُلمَ رَعِيَّتي). فإذا كان القائلُ ممّن يَعُدُّ نفسهُ مِن رَعِيَّتِه فإنَّ الإمام يخافُ ظُلمَهُ، على عكس الحال التي تقتضي أن يكون الناس خائفين من ظُلم الوُلاة، أمّا الإمام فيقول: (وأصبحتُ أخافُ ظُلمَ رَعِيَّتي) فإذا كانت الحال على هذا فكيف يُصَدَّقُ مَن يَتَّخِذُ هذا الأمر حُجَّةً وذريعَةً من أجلِ أن يُؤَلِّبَ الناس، ومِن أجلِ أن يوقِعَ بينهُمُ العداوَةَ والبَغضاء في أمرٍ نَزَلَ عنه صاحبُ الحَق، وفي أمرٍ ما كان العُقَلاءُ من العُلماء يتجاوزونه إلى حَدِّ الإسفافِ أو حَدِّ البَذاءَةِ في القَول.

هذا اليوم يومٌ لهُ ذِكْرُهُ في التَّاريخ، وهو يومٌ قال فيه الشُّعراء وأكثروا، وقال فيه المؤلّفون وأكثروا، وقال فيه كُتَّابُ السِيَرِ وأَكثروا، حتى لو جمعته لدخلَ في مُجلَّدات، ولكن كيف يُنظر إليه اليوم، هل نرجعُ فيه إلى النَّزاعِ وإلى التَّصادُم، في زمنٍ ينتظِرُ فيه العَدُوُّ أن تكون مِثلُ هذه الأمور شاغلًا لنا، وهل يظُنُّ أحدٌ أنَّ وَلايَةَ أميرِ المُؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب  تقتضي شيئًا غَيْرَ الإقتداءِ به، وغَيرَ طاعتِه، أن تكون فَعَّالًا مع قومِكَ، تقولُ ثمّ تفعَل، حينئذٍ أنتَ قد تكون مِمَّن والى أمير المؤمنين.

الوَلايَةُ ليست مُقَيَّدَة بالنِّزاعِ في حَقِّ الخِلافة، ولا بالبَحثِ عنها في زمنٍ مَضى، حتى لم تعُد هذه الكلمة مُستعملةً فيه، منذُ سنة أربعٍ وعشرين وتِسعمِئةٍ وألف، يومَ أُسقِطَتُ الخِلافَةُ ولم يبقَ لها أثَر، لم يعُد هناك هذا اللقب ولم يُستعمل بعد ذلك هذا الاسم، فهل نُنازِعُ في شيءٍ ونحن نعلمُ أنَّهُ لا أثَرَ له اليَوم، ولا مَكانَ له اليوم!.

الوَلايَةُ في يومِ الغَديرِ وفي غَيرِهِ، بل هيَ لا تحتاجُ إلى قولِ رسول الله . الوَلايَةُ إذا أردتَ أن تكونَ مُحِبًّا لرسول الله ولأهلِ بيتِهِ الطاهرين فليَظهَر عليكَ شيءٌ من آثار طاعَتِهِم، من الإقتداء بهم، من محبّتِهِم، فالوَلايَةُ ليست كلمةً نتذرَّعُ بها أو نستعملها من أجل أن نُدخِلَ أنفُسنا في عَدَدِ مَن يُوالي آلَ البَيت.

إذا لم تكُن الوَلايَةُ ظاهرةَ علينا بطاعَتِهِم، بما وَصَفوه بصفاتِ مَن يُواليهِم، بالحياء، بالطاعة، بالصدق، بأداء الأمانة... هُنالِكَ تكونُ الوَلايَة، هُنالك يكون الوَلاء (ما شيعتُنا إلّا مَنِ اتّقى الله فأطاعَهُ، وما كانوا يُعرفون إلّا بالتّواضُع، وحُسْنِ الخُلُق، وصِدقِ الحَديث، وأداءِ الأمانة..) بمثلِ هذه الصِّفات يكونونَ مِن أهلِ الوَلايَة، أمّا على غير ذلك فهم قائلونَ بغيرِ دليل، ومُدَّعون بغَيرِ بَيِّنَة.

  • الوَلايَةُ ليست كلمةً نلقيها متى أحببنا، وليست ذريعةً نتّخِذُها إلى ما نُريد!.
  • أينَ نحنُ من زُهدِ أمير المؤمنين!
  • وأين نحن من أَدَبِ أميرِ المؤمنين!
  • وأينَ نحنُ من عَمَلِ أمير المؤمنين!

لقد وَصَفَ النَّاس أنّهُم لا يقدرون على ما يقدر هو عليه ولكن (ألا وإنَّكُم لا تقدِرون على ذلك فأعينوني بوَرَعٍ واجتهاد).

الوَلايةُ بطاعة الله سبحانه وتعالى، إذا كانت شرطَ النَّجاة على ما عَبَّرَ عنه كثيرٌ من العُلماء، وكان منه قول العَلّامَة الشيخ سُليمان أحمد رحمة الله تعالى ورِضوانُهُ عليه:

شرطُ النَّجاةِ بما أتَت فيه***عن الهادي الرِّواية
صِدْقُ الوَلايَةِ للّذي***فَرَضَ الإلهُ لهُ الوَلايَة

فكانَ فرضُ الوَلايَةِ طاعةً، وأخلاقًا، وعملًا صالحًا، واقتداءً بأعمالِ مَن تُوالي، ولَم تكُن كلمَةً تضَعُها أينما أحببت، ولم تكُن كلمةً ترفَعُها أينما أحببت، فالوَلِيُّ هوَ المُطيع، فمن أحَبَّ رسول الله وهو يُطيعُهُ فقد صَدَقَ في وَلائِه، ومن لم يكُن على غير هذا فيُنتَظَرُ منه أن يظهر من فِعلِهِ شيءٌ يدُلُّ على وَلائِه (صِدْقُ الوَلايَةِ للّذي...).

والصِّدقُ إنّما يُستدَلُّ عليه بالفِعلِ وبالعَمَل، أن تقول فإذا عَمِلْتَ كُنْتَ صادقًا في قولِك، أمَّا أن تقولَ ثمَّ لا يكونُ لكَ عمَلٌ فإنَّ النَّاظِرَ متوقِّفٌ في أن يُشَكِّكَ في قولِكَ، أو في أن يُصَوِّبَهُ، أو في أن يُثبِتَ صِدقَكَ فيه.

الوَلايَةُ في حقيقتِها أن تكونَ مُطيعًا، سواءٌ بعدَ هذا بحَثْتَ عن أمرِ الخِلافَةِ أم لم تبحث، ولا يُجيزُ لك هذا أن تطعَنَ بغيرِ دليلٍ منطِقِيٍّ أو عِلمِيٍّ أو تاريخيٍّ يُثبِتُهُ العقلُ ويَحكُمُ عليه، فهذا في يومِ الغَدير الذي قيل فيه على ما ذكرنا ممّا قاله الشعراء، ومما قاله المؤلفون.

هذه هي الوَلايَة، فالوَلايَةُ لا تعدو أن تكون على قِسمَين، على ما ذَكَرَ الإمامُ الصّادِقُ  (إمّا وَلايَةُ الله، وإمَّا وَلايَةُ الشيطان.) والذي يُخْرِجُ المسلم من وَلايَةِ الله ، عملٌ قد يستصغِرُهُ وقد يعُدُّهُ بسيطًا أو قليلًا، (فمَن روى عن أخيه رِوايةً يُريدُ بها شَيْنَهُ وهَدْمَ مُرُوءَتِه ليسقُطَ مِن أعيُنِ النَّاس، أخرجهُ اللهُ مِن وَلايَتِهِ إلى وَلايَةِ الشَّيطان ثم لا يقبَلُهُ الشيطان). هذا أوَّلُ شيءٍ يُخرِجُ المَرء مِن وَلايَةِ الله، أي مِن طاعَتِهِ، وحسبُكَ بهذا الدَّليل، وبهذه الرِّوايَة، وبهذا الحَديث دليلًا على معرِفَةِ كيفَ تُوالي أمير المؤمنين وكيفَ تُوالي من كان بَعدَهُ من أهل بيتِ رسول الله .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن أطاعَ أمْرَهُ، ومِمَّن أكثَرَ ذِكرَهُ، ومِمَّن لم تكُنِ الدنيا شاغلاً له عن عِبادةِ الله، ولم يكُن حُبُّ الدنيا شاغلًا لهُ عن حُبِّ الله، ولم تكُن طاعةُ غيره من المَخلوقين مانعًا له أو صارفًا له عن العمَلِ بطاعة الله.

اللهم صلِّ على مُحمد وآل محمد..