نَهْجُ العَلَوِيَّةِ .

أُضيف بتاريخ الجمعة, 15/10/2010 - 17:00

مَازَالَ نَهْجُ البَلاغَةِ ، مَعَ شِدَّةِ بُزُوْغِ فَجْرِهِ ، وَوُضُوْحِ نَهَارِهِ ، بِمَنْأىً عَنْ أَيْدِي الشَّارِحِيْنَ ، يَعِيْشُ حَالَةَ قَبْضٍ ، لا يُمْكِنُ بَسْطُهَا ، إِلاَّ بِصَاحِبِهِ ، عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَهُوَ : شَمْسٌ أَشْرَقَتْ فِي سَمَاءِ الإِسْلامِ وَالإِنْسَانِيَّةِ ، فَأَنَارَتْ قُلُوْبَ السَّالِكِيْنَ ، وَأَمَاطَتْ دُجَى الضَّلالَةِ ، بِسَنَائِهَا المُبِيْنِ .

هَذِهِ الكُنُوْزُ النَّادِرَةُ ، و َالجَوَاهِرُ الفَاخِرَةُ ، وَالمَعَانِي الذَّاخِرَةُ ، تُعَدُّ دُسْتُوْراً كَامِلاً فِي العَقِيْدَةِ وَالشَّرِيْعَةِ ، وَالأَخْلاقِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ العُلُوْمِ وَالمَعَارِفِ ، الَّتِي لا غِنَى عَنْهَا لأَحَدٍ .

لَقَدْ جَمَعَ هَذَا الكِتَابُ ، فِي دَفَّتَيْهِ ، مَا لَمْ يَجْمَعْهُ كِتَابٌ غَيْرُهُ ، مُسْتَثْنىً مِنْ ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ.
فَفِيْهِ لِمَنْ يُبْحِرُ فِي مُحِيْطِهِ الصَّافِي ، وَيَغُوْصُ فِي أَعْمَاقِهِ البَعِيْدَةِ ، مِنَ الأُصُوْلِ الأَصِيْلَةِ ، مَا تَعْجَزُ عَنْ إِدْرَاكِهِ طَامِحَاتُ العُقُوْلِ ، وَمِنَ الفُرُوْعِ وَالآدَابِ ، مَا يُثْلِجُ صُدُوْرَ أُوْلِي الأَلْبَابِ .

وَلا يَسَعُنِي فِي هَذَا المَقَامِ ، إِلاَّ أَنْ أَنْقُلَ مُخْتَارَاتٍ ، مِنْ كَلِمَةِ العَلاَّمَةِ الفَقِيْهِ ، الإِمَامِ العَلَوِيِّ ، المُجَاهِدِ الشَّيْخِ حُسَيْن سَعُّود ، تَغَمَّدَهُ اللهُ بِوَاسِعِ رَحْمَتِهِ ، فِي الكَلامِ عَلَى نَهْجِ البَلاغَةِ :

" كَمَا أَنَّهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَصِفَ : نُوْرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ،   إِلاَّ : نُوْرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلا يَقْدِرُ أَنْ يَصِفَ : كِتَابَ اللهِ ، إِلاَّ : كِتَابُ اللهِ.
فَكَذَلِكَ ، لا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَصِفَ : نَهْجَ البَلاغَةِ ، إِلاَّ : نَهْجُ   البَلاغَةِ .
اللَّهُمَّ : إِلاَّ كَمَا يُقَالُ ـ عَنِ البَحْرِ ـ أَنَّهُ لُجِّيٌّ ، وَالشَّمْسِ : أَنَّهَا مُضِيْئَةٌ ، أَوِ الكَوْنِ : أَنَّهُ فَسِيْحٌ .

أَمَّا : أَنْ يُحَاطَ بِنَهْجِ البَلاغَةِ ، أَوْ تُدْرَكَ غَايَتُهُ ، أَوْ يُسْبَرَ غَوْرُهُ ،   أَوْ يُبْلَغَ كُنْهُهُ ، فَهَذَا : مَالا يَتَسَنَّى لِمُتَتَبِّعٍ ، أَوْ يَتَهَيَّأُ لِمُسْتَقْصٍ .

لا أَسْتَثْنِي مِنْ ذَلِكَ : عَالِماً ، وَلا مُجْتَهِداً ، مَهْمَا عَلا شَأنُهُ ، وَرَسَخَتْ قَدَمُهُ ، لأَنَّ فِي هَذَا الكِتَابِ ، مِنَ العُلُوْمِ الإِلَهِيَّةِ ، وَالكَوْنِيَّةِ وَالغَيْبِيَّةِ ، وَالرِّيَاضِيَّةِ ، وَالتَّرْبَوِيَّةِ ، وَالتَّعْبَوِيَّةِ ، مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ،   وَ لا أُذُنٌ سَمِعَتْ .
وَمَا إِلَى ذَلِكَ ، مِنْ تَرْغِيْبٍ ، وَتَرْهِيْبٍ ، يَجْلُو عَلَيْكَ الجَنَّةَ ، بِحُوْرِهَا، وَوُلْدَانِهَا وَمِنْ تَرْهِيْبٍ ، يَسْتَثِيْرُ النَّارَ عَلَيْكَ ، بِجَحِيْمِهَا ، وَسَعِيْرِهَا .
فَلَوْ أَنَّ اِمْرَءاً ، أُوْتِيَ بَيَانَ سَحْبَانَ
1 ، وَفَصَاحَةَ قُسِّ اِبْنِ سَاعِدَة الإِيَادِيّ 2 . ، مُزْدَوِجَتَيْنِ لَمَا قَدَرَ أَنْ يُعْطِيَ نَاحِيَةً وَاحِدَةً ، حَقَّهَا ، وَيُلِمَّ بِجَوَانِبِهَا ، وَيُفْصِحَ عَنْ مَكْنُوْنَاتِهَا ، مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَمِيْرُ المُؤمِنِيْنَ عَلِيُّ اِبْنُ أَبِي طَالِبَ ، عَلَيْهِ السَّلامُ وَإِنَّمَا تَجَلَّى بَرِيْقٌ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ النَّوَاحِي الخَارِقَةِ ، فِي خُطَبِ نَهْجِ البَلاغَةِ .

وَلابُدَّ مِنَ القَوْلِ : بِأَنَّ نَهْجَ البَلاغَةِ ، هُوَ : الجَامِعَةُ الرَّحْمَانِيَّةُ فِي الأَرْضِ ، تَتَوَلَّى التَّدْرِيْسَ فِيْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ، فَتَتَخَرَّجُ فِي أَبْوَابِهَا ، وَمِنْ عَلَى مَقَاعِدِهَا أَفْوَاجُ العَارِفِيْنَ المُسْتَرْشِدِيْنَ ، بِرُؤيَةِ الحَقَائِقِ المُجَرَّدَةِ، وَاللَّطَائِفِ المُؤَكَّدَةِ ، فَيَحْيُوْنَ ، وَيُحْيُوْنَ ، وَيُقْنُوْنَ ، فَيُغْنُوْنَ تَارِكِيْنَ وَرَاءَ ظُهُوْرِهِمْ مَا يَذْهَبُ جَفَاءً للمُغْتَرِّيْنَ الوَاهِمِيْنَ ، وَمُقَدِّمِيْنَ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ، صَدَقَةً بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ ، للمُتَدَبِّرِيْنَ المُسْتَبْصِرِيْنَ " .

هَذَا هُوَ : نَهْجُ العَلَوِيَّةِ الأَمْثَلُ ، لِمَنْ أَرَادَ الغَوْرَ فِي أَعْمَاقِ المَعَارِفِ الأَصِيْلَةِ ، وَهَذِهِ هِيَ : جَامِعَتُهَا الكُبْرَى الغَنِيَّةُ بِالقَوَاعِدِ ، وَالفَوَائِدِ ، وَالحَقَائِقِ ، وَالفَرَائِدِ ، الَّتِي تَتَطَلَّبُهَا النَّفْسُ الإِنْسَانِيَّةُ ، وَيَعْشَقُهَا العَقْلُ الوُجْدَانِيُّ ، لِبُلُوغِ الكَمَالِ الوُجُوْدِيِّ المَنْشُوْدِ ، وَالَّذِي بِهِ يَتِمُّ الوَفَاءُ بِالمَوَاثِيْقِ وَالعُهُوْدِ .

  • 1 سَحْبَانُ وَائِلَ : خَطِيْبٌ مُخَضْرَمٌ ، أَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ ، عَاشَ مُدَّةً عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بِدِمَشْقَ ،   وَقِيْلَ : أَنَّهُ عَمَّرَ ثَمَانِيْنَ وَمِئَةَ سَنَةٍ ، وَكَانَ إِذَا خَطَبَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصاً ، وَيَسِيْلُ عَرَقاً ، وَلا يُعِيْدُ كَلِمَةً ،   وَ لا يَتَوَقَّفُ ، وَلا يَتَنَحْنَحُ ، وَلا يَبْتَدِئُ فِي مَعْنىً ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ ، قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ ، فَضُرِبَ بِهِ المَثَلُ ، وَقِيْلَ ( أَبْلَغُ مِنْ سَحْبَان وَائِلَ ) .
  • 2 قُسُّ اِبْنُ سَاعِدَةَ الإِيَادِيّ ، خَطِيْبُ العَرَبِ ، وَشَاعِرُهُمْ ، وَحَكِيْمُهُمْ ، وَحَكَمُهُمْ فِي عَصْرِهِ ، أَدْرَكَهُ النَّبِيُّ ، فَسَمِعَهُ يَخْطُبُ بِعُكَاظَ ، فَأُعْجِبَ بِكَلامِهِ ، وَتَمَثَّلَ بِهِ كَثِيْراً ، وَقِيْلَ : أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى مُرْتَفَعٍ ، وَأَوَّلُ مَنِ اِتَّكَأَ عِنْدَ خُطْبَتِهِ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصاً ، وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي كَلامٍ : أَمَّا بَعْدُ ، وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ : إِلَى فُلانٍ ، مِنْ فُلانٍ "