3- منقذ المرأة

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 03/11/2010 - 21:06

بات من المبتذل القول بأن المرأة نصف المجتمع، وأنها مصنع خصائص الأمة، وأنّ من خوارق الطبيعة أن تجد لوناً من القوة الشخصية في رجل نشأ بين ذراعي أمٍّ فقدت ذاتيتها المُوَلِّدَة حتى أصبحت أشبه بالآلة الناتجة لا إرادة فيها ولا حياة.

ومن الفضول أيضاً، القول بأن أهم البواعث على تدهور المجتمع الشرقي على اختلافه، وخاصة العربي منه، إنما مصدره هذا المستوى الذي صارت إليه المرأة بين ظهرانيه، وأنّه لن يستكمل وسائل الحياة الجديدة حتى تستعيد المرأة فيه مركزها الأول الذي شادته في عهود "زنوبيا" و "الزباء" و "عائشة" و "سكينة" وأخواتهن من أمثلة الحضارة الصالحة.

ذلك مفروغٌ منه، لكن الذي نودُّ لَفتكَ إليه هو الوضع الذي يُتوقع أن تتخذه المرأة في محيطٍ كهذا الجبل ضرب بنصيبه من ذلك التأخر القومي العام ثم زاد عليه بمقدار ما تقضي به ظروفه الإستثنائية الخاصة، ولن أسترسل في الكلام عن هذا الوضع الذي أدع لك تصوُّرهُ، ولكني أذكر لك شيئاً واحداً لا بد منه مما انتهت إليه المرأة الجبلية حتى مطلع عهد اليقظة: ذلك هو انعزالها عن أية حركة تتجاوز وظيفتها المعاشية وإقصاءها حتى عن الشؤون الأولية التي احتُفظ بتوارثها من مبادئ العلم.

فلما أخذ الجبل اتجاهه الجديد أثناء هذا المهد، حوولت بعض التجارب في تعديل هذا الوضع ولكنها تجارب لم تتعدَّ حدوداً يسيرة جداً من تعليمها بعض أوليات القراءة، وفي بيوت قليلة معدودة أيضاً.

ثم ظلت على مبلغها هذا في تلك الدائرة حتى بدأ عمل الشيخ فإذا هي تنهض نهضتها الرائعة على يديه. وكان أبرز مثل عمليٍّ ضربه على صلاح دعوته في تهديم الحوائل القائمة دون مساهمة المرأة في ذلك الإنبعاث، هذا التكوين الثقافي والأدبي الذي طبع على غراره سائر بناته، وأخص بالذكر منهنّ السيدة فاطمة – فتاة غسان – التي كانت بنفسها وبما أحدثته في بناء النهضة الأدبية والتحريرية جنبا لجنب مع أخيها الأستاذ "البدوي" مشعلاً نيراً من مشاعل "العهد الذهبي" الحديث، وأسمح لنفسي بتسميته كذلك بالنسبة إلى جو المرأة العلوية الجديدة، وإن اقتصرت مظاهر تحررها حتى اليوم على بعض الأوساط الأرستقراطية من الجبل، وذلك بما نستشفه من استعدادها للإقبال على التطور من خلال ما نلمسه من خطواتها السريعة في هذا المجال. وما نحسه من الترحيب بنهضتها في مختلف الأوساط العلوية.

ونحنُ لن نُدركَ فضل الشيخ على هاته الحركة المباركة إلا حين نفرض عدم وجود "فتاة غسان" وحين نتخيّل للشيخ موقفاً سلبياً يرمي إلى الوقوف بوجه المرأة وتعلمها.

أجل لقد نجد في عناصر الطبيعة نفسها ما يضمن بعث هذه الحياة في يوم – ولو بعيداً – كشيء لا بد منه ولكن مَن تُرى باستطاعته أن ينكر أثر هذا العمل الإيجابي، وخصوصاً من شخصية كهذه الشخصية في الإسراع بفرض هذه الحقيقة.

وإذا أضفنا إلى هذا المثل الثقافي صورته العملية الأخرى في تربية الشيخ البيتية، وتعزيزه فضيلة الحرية الشخصية في سائر أفراد ذلك البيت نساءً ورجالاً، التعزيز الذي قلَّ أن نشهد له مثيلاً، إلا في أرقى البيوتات وما يحدثه هذا التجاوب من قدوة حسنة في أنحاء هذه البيئة، أدركنا مدى ذلك الفضل المزدوج الذي سجله الشيخ على هذه النهضة المبرورة، وألفينا من الإعتراف بالجميل أن يُدعى بحق منقذ المرأة.

ثم لا يفوتنا، ونحن نتحدث عن شخصية الشيخ واتجاهها الإجتماعي، أن نتبادل مع القارئ شعور الإستغراب لإمكانه التخلص كلياً من سيطرة الفلسفة العلائية عليه فيما يتصل بشأن المرأة، وهو الذي طبعته هذه الفلسفة كما رأيت، طبعاً محكماً في سائر مناحي حياته الخاصة والعامة.

فكأنّ شيخنا قد أدرك سرَّ ذلك الباعث الذي عمل في توجيه رأي الفيلسوف العربي إلى استنكار تثقف المرأة حتى جعلها في مواضع الأبالسة الذين مُهمّتهم تشويه الحياة في هذه الدنيا 1 ، كأنّه قد أدرك أن مصدر الإلتواء في تفكير أبي العلاء – هنا – ذلك السجن الذي ضربته الطبيعة على نفسه منذ أفقدته وسيلة التمتع بمباهج الحياة، فجعلته ممتلئ الصدر ضغينةً على كل ما يتصل بهذه المفارح التي في مقدمتها بل كنه وجودها، المرأة: هذا المخلوق السحري الذي أترع حبه والتلهف عليه قلب فيلسوف (المعرة). حتى إذا حالت ثغرة الطبيعة بينه وبينه خثر ذلك الحب في فؤاده فإذا هو لونٌ آخر من الحب نفسه: هو هذه البغضاء اللاذعة التي يغلي بها صدر أبي العلاء... وأيُّ شيءٍ من الطبيعة لا ينقلب إلى ضدّه تحت الضواغط!

أليس نهاية كل شيء هي مبدأ نقيضه من الشيء الآخر!

إنّ في خلوص نظر الشيخ من سلطان أبي العلاء، إزاء المرأة لبرهاناً على سُمُوّ هذا العقل الذي أوتيَ مزية النقد لكل ما يمرّ به، فلن يهضم إلا ما يتفق مع منطقه، حتى إذا خالط إرادته استحال صورة جديدة تحمل في طابعها من شخصيته الفكرية.
وهنا نقطة التمايز بين الشخصية الضعيفة المُقلّدة، والشخصية القوية المحللة.
وبعد
فأحسبني بهذا القدر الضئيل قد عرضتُ نموذجاً كافياً من أثر الشيخ من الناحية الإجتماعية القومية، بوسعنا الإنتقال منه إلى الحلقة الثالثة التي نُشرفُ من خلالها على أثره الأدبي، فاللهم عونك.

  • 1 انظر قول أبي العلاء:

    علِّموها الغسيلَ والنسجَ والرد   ن وخلّــــوا كتـــــاةً وقـــــــراءة
    فـــصلاةُ الفتـــاةِ بالحمــدِ والإ   خلاصٍ تُغني عن يونس وبراءة