الجُمُعَة 27 شباط.

أُضيف بتاريخ الجمعة, 04/03/2016 - 00:16
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 27\ شباط \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: الإِنْسَانُ فِي نَقْصٍ إِلاَّ مَنْ آمَنَ، وَالإِيْمَانُ أَوَّلُهُ عَدَمُ الأَذَى وَأَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ مِمَّنْ يُؤْمَنُ شَرُّهُ وَيُرْجَى خَيْرُهُ، فَبِذَلِكَ تَتِمُّ إِنْسَانِيَّتُهُ.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: مَنْشَأُ الجَهْلِ عَدَمُ التَّدَبُّرِ وَعَدَمُ التَّأَمُّلِ، وَنَتِيْجَتُهُ الاسْتِعْجَالُ فِي تَخْطِئَةِ النَّاسِ مَعَ حَيْرَةِ المُخَطِّئِ، أَأَحَقَّ بَاطِلاً، أَمْ أَبْطَلَ حَقًّا، وَكَلامٌ عَلَى اعْتِرَاضِ بَعْضِهِم عَلَى جَوَازِ تَوْدِيْعِ المَيِّتِ بِتَقْبِيْلِهِ بَعْدَ غَسْلِهِ وَتَكْفِيْنِهِ.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

  ... كُلُّ إنسانٍ مِنّا يرغَبُ أن يكونَ في سَلامَةٍ مِن دينِهِ، ويرغَبُ أَن يكونَ في تَمامٍ مِن عَمَلِه، ولكنَّ تَمامَ العَمَل مُقَيَّدٌ بشُرُوط، وإنَّ سَلامةَ الحالِ مٌقَيَّدَةٌ بشروط، كُلُّ إنسانٍ في نُقصان، ويُستَثنَى مِن هذا مَن آمَنَ وَمَن كانَ عَمَلُهُ صالِحاً، وتُستَثنى الجَماعَةُ حينَ تكونُ المَوَدَّةُ غالبَةَ عليها، وحينَ تكونُ المَحَبَّةُ غالبَةً عليها، وحينَ يكونُ التَّعاوُنُ غالباً على أفرادِها.

  هذه الصورةُ التي قالَ اللهُ سُبحانهُ وتعالى فيها {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} سورة العصر.

  التَّواصي بَينَ الجَماعَة هي أن يُوصِيَ بعضَهُم بَعضاً بالخَير، هيَ أن يوصِيَ بعضُهُم بَعضاً بالتَّقوى، هيَ أن يوصِيَ بعضُهُم بَعضاً بالتَّراحُم، ثم كان من الذين آمنوا وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة.

  أولئك الذين يَتَوَاصَوْنَ بالصَّبرِ ويتوَاصَوْنَ بالمَرحَمَة هُم أصحابُ المَيمَنَة.

  كُلُّنا يرغَبُ في الفَوز، وكُلّنا يرجو أن يَنالَ مِنَ اللهِ عزّ وجلّ ما نالهُ الأولياءُ والصّالحون، والأنبياءُ والمُرسَلون، والشُّهداءُ والصِّدِّيقون، ولكنَّ هذا مُقَيَّدٌ على ما بَيَّنَت الآية الذين تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَالذين تَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة.

  الذين يُوصي بعضُهُم بَعضاً أن يَصِلوا في تَواصيهِم إلى درجةِ الإنسانية التي لا يُحَقِّقُها الإنسان في صورتِهِ، ولكن يُحَقِّقُها في فِعلِهِ وفي سُلوكِه. لا يُحققها الإنسان في صورته التي خلقَهُ الله سبحانه وتعالى عليها وجَعَلَ له هذا التّقويمَ الحَسَن، لكنّهُ يُحَقِّقُها برَحمَةِ قلبِهِ، ويُحَقِّقُها باتّساعِ أُفُقِهِ، ويُحَقِّقُها بإِعمالِ عَقلِهِ.

  الذين يَتَواصَونَ بالصَّبر ويتواصَوْنَ بالمَرْحَمَة هُم الذين تَسْلَمُ أعمالُهُم، وهُم الذينَ تَتِمُّ إنسانيّتُهُم. فإنَّ الإنسان كما بيّنَت الآية {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي لَفِي نُقْصَان، إلاّ الذين آمنوا.

  الذين آمنوا، والإيمانُ كما بيّنّا غَيرَ مرّة، ليسَ تصديقاً بالقلبِ فقط، وليس قولاً باللسانِ فقط، لكنّهُ التصديق بالقلب، والقول باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، حتى يَصِلَ إلى درجةٍ يستحقُّ بها هذا اللقب ويستحقّ بها هذا التعظيم، ويستأهِلُ بها هذا التكريم.
أن يكون مُؤمِناً، يأمَنُهُ النّاس على أموالهم وعلى أنفسهم، على أحاديثِهِم، (ليسَ مِنَّا مَن لا يأمَن جارُهُ بَوَارِقَه).

  المؤمِنُ سُمِّيَ مُؤمِناً لأنَّ النّاس يأتمنونه ويعتبرونه أهلاً للأمانة، يُؤتَمَنُ على الأموال، ويُؤتَمَنُ على الأنفُس، ويُؤتَمَنُ على الأعراض.

  بهذا كما يكون المُسلِمُ مُسلِماً حينَ يَسْلَمُ النّاسُ مِن لِسانِه ومِن يدِهِ ومِن عَينِهِ، حين لا يُؤذي أحداً، كذلك يتِمُّ الإيمان حينَ يكونُ مَن وُصِفَ بهذا ممّن يأمَنُهُ النّاس على كُلِّ شيء، يُؤمَنُ مِن جانِبِهِ الأذى، ويُؤمَلُ مِنهُ الخَير، حينئذٍ يكون مِن الذين قد استثناهُمُ اللهُ عز وجل مِن الخُسران {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والذين يتوَاصَوْنَ بالحَقِّ ويتواصَونَ بالصَّبر، هُمُ الذينَ يَصِلونَ إلى القُوَّةِ التي يُرهِبونَ بِها عَدُوَّهُم.

  يقول رسول الله (ص وآله) موصِياً (لا تَبَاغَضُوا، ولا تَحَاسَدوا، ولا تَدَابَرُوا، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانا).

  متى نَكونُ إخواناً؟

  حينَ ننبِذُ التَّدابُرَ والتَّحاسُدَ والتَّقاطُع، حينئذٍ نكونُ مِنَ الذينَ يُوصي بالصَّبرِ ويُوصي بالمَرحَمَة.

  ما الحديثُ الذي سمعناه في وصفِ رسولِ اللهِ (ص وآله) للمؤمنين مَثَلُ المؤمنين، مَثَلُ المُسلمين، هؤلاء الذين مثَّلَهُم (كالجَسَدِ الواحِد الذي إذا اشتكى منهُ عُضوٌ تداعى لهُ سائِرُ الأعضاء بالسَّهَرِ والحُمّى)، يعني يُؤلِمُني ما يُؤلِمُ جاري، ويُؤلِمُني ما يُؤلِمُ صديقي، ويُؤلِمُني ما يُؤلِمُ مَن أعرِفُهُ، فأينَ نحنُ مِن هذا التَّمثيل؟!
(مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهِم وتراحُمِهِم وتَعاضُدِهِم) أينَ نحنُ من هذا التمثيل؟!
من مِنّا إذا شكى جارُهُ شَكَى؟!
ومن مِنّا إذا شكى أخوهُ شكى؟!
ومن مِنّا إذا شكى مَن وَجَبَ عليه حَقُّهُ شكى؟!

  أيُّ شيءٍ يكونُ أَشَدَّ على رسول الله (ص وآله) وعلى مَن كانَ بَعدَهُ مِن آل بيتِهِ (ع)، أيُّ شيءٍ أشَدّ؟! يقولُ الإمام الصّادِقُ (ع) (وأيُّ شيءٍ أشَدُّ على قومٍ مِن قومٍ يزعُمُون أنّهُم يأتَمّونَ بقومٍ فيأمرونَهُم، ويَنهَوْنَهُم، فلا يقبَلونَ مِنهُم) ؟!.

  أيُّ شيءٍ أشَدُّ على قومٍ مِن قومٍ يزعُمُون أنّهُم يأتَمّونَ بهِم -أي يأتمرون بأوامرهم- فيأمُرُونَهُم فلا يَقبَلون؟! ويَنْهَوْنَهُم فَلا يَقبَلون؟! ثمَّ يسألون بعدَ هذا النُّصرَةَ والتأييد؟!

  كيفَ يُمكِنُ التوفيق بين هذين؟! كيفَ يُمكِن التوفيق بين أن تُظهِرَ باللسان أنِّي أُحِبُّكَ وأُطيعُك ثمّ تكون أفعالي على خِلافِ ما أُمِرتُ به؟! كيفَ يُمكِنُ الجَمعُ بينَ هذين؟!

  الذي يُحِبُّ أن يَكمُلَ عَمَلُهُ، والذي يُحِبُّ أن تَتِمَّ إنسانِيَّتُهُ فعليه أن يُخرِجَ مِن قلبِهِ الضغائن، وأن يُخرِجَ مِن صدره الأحقاد، وأن يُسامِحَ من آذاه، وأن يجتنبَ أن يكون مِمَّن يُؤذي أحداً.

  الذي يُريدُ المَنزِلَةَ والذي يَرغَبُ في هذه الدَّرَجَة فهُوَ مِنَ الفائزين، وهو من النَّاجين، وهُوَ من الذين ليس في أعناقِهِم حَقٌّ وليس عليهِم تَبِعَةٌ قَد يكونُ فيها مِنَ العِقابِ ما يكون.

  الإنسانُ ليس في نُقصانٍ في صورتِهِ التي جعلها الله والتي خلقهُ فيها في أحسَنِ تَقويم، لكنّهُ في نُقصانٍ مِن عَمَلِهِ، وفي نُقصانٍ مِن سَعيِهِ حتّى يَصِلَ إلى هذه الحال التي أرادَها الله عز وجل له.

  الذي يُؤمِنُ، والذي يعمَلُ الصّالِحات، والذي يتواصى، والذي يُوصي بالحَق، والذي يُوصي بالصَّبر، هو الذي يَكمُلُ عَمَلُهُ، وهو الذي تُضمَنُ له النّجاة بأمرِ الله سبحانه وتعالى وببَيانِهِ القُرآنِيّ، فمَن رَغِبَ في أن يُكمِلَ هذا فليكُن على ما أرادَ اللهُ سبحانه وتعالى مِنه، مُؤمِناً يعمَلُ الصّالحات، أوَّلُ ما ينبغي عليه كما ذكرنا أن يكون مُؤتمناً وأن يكونَ الشّرُ منه مَأموناً، وأن يكونَ الخيرُ منه مأمولاً.

  ثمّ بعدَ هذا الصّالحاتُ ليست مُقيّدَةً بعمَلٍ دون عَمَل، كُلُّ عَمَلٍ ينفعُ الناس فهو مِن الصالحات، ولقد جاء في الحديث (خيرُ الناس مَن انتَفَعَ به النّاس).
ثمَّ إذا أصابَهُ شيء أن يُوصِيَ بالصَّبر، أن يُوصِيَ بالمَرحَمَة، لا أن يُوصِيَ بالقَسوَةِ على الضّعيف مَكان أن يُوصِيَ بالرَّحمَةِ وبالعَطف، هذا الذي يُريدُ أن يبلُغَ هذه المنزلة وهذه المَكانَة ليكون إنساناً في صورته وإنساناً في قلبه، ولئلاّ يكون مِنَ الذين عَدَّهُم أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام مِن أموات الأحياء، (مَيِّتُ الأحياء الذي لا يعرِفُ بابَ الهُدى فيتَّبِعَهُ، ولا بابَ العَمى فيَصُدَّ عنه، فذلك مَيِّتُ الأحياء الذي الصورةُ صورةُ إنسان لكن القَلبَ قلبُ حيوان).

  حينَ لا يكونُ قلبُ الإنسانِ في أحسَنِ تقويمٍ، كالتقويم الذي خلقه الله عز وجل لصورتِهِ، فإنّهُ بعيدٌ عن إنسانيّتِهِ، وبعيدٌ عن الغايةِ التي جعلها اللهُ سبحانه وتعالى من أجلِها في هذه الأرض، عن الإستخلاف الذي أرادَهُ الله تعالى لِعِبادِهِ وللإنسان حينَ خلقهُ.

  ليسَ يستطيعُ أحدُنا مهما بَلَغَ أن يَصِلَ إلى درجةٍ لا يَفنى فيها ولا يموت، ولكنّهُ يستطيعُ أن يكونَ حيّاً بعملِهِ، وحَيًّا بذِكراه، فإنَّ الذِكرى للإنسان –كما جاء- هوَ العُمُرُ الثاني .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن يعملون الصّالحات، وممّن يتَوَاصَونَ بالصبرِ ويتواصَونَ بالمَرحَمَة، ومِمّن لا يُفَضِّلون هواهُم على الحَق، ومِمّن لا يتّبِعون آراءَهُم إذا تبيّنَ لهُم الهُدى...

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  أوّلُ مَنشئٍ أو سببٍ ينشأُ منه التكذيب هو جَهلُ الشيء، عَدَمُ التَّدَبُّر، هو الذي ينشأُ منه تكذيبُ الأمر، وهو الذي ينشأُ منه دفعُ الحقائق، التكذيبُ بِما لا يعرِفُهُ الإنسان أوّلُ دليلٍ على جَهْلِه، وأوّلُ دليلٍ بجهله لماذا؟ لأنّهُ اكتفى برأيِهِ، (ومَن استغنى برأيِهِ ضَلّ).

  ولأنَّ إعجابَ المرءِ بنفسِهِ دليلٌ على ضَعفِ عقلِه –كما جاء في حَديث مَولانا أمير المؤمنين- أن يُعجَبَ المَرءُ بنفسِهِ ليس دليلاً على قوّة عقلِه ولكنّه دليلٌ على ضَعفِ عَقلِه، ولذلك كان مَنشَأ التكذيب مِنَ الجَهل، والجَهلُ كان سبَبُهُ ومَنشَؤُه عدم التدبّر وعدم التأمّل.

  ولولا ذلك ما استعجل أحدٌ في تكذيب أمرٍ لا يدري إن كان يُكَذِّبُ الحَقّ فيه أو إن كان يُكَذِّبُ الباطِلَ فيه، لا يدري إن كان يُبطِلُ الباطِلَ أو يُحِقُّ الحَق، ربّما كان يُبطِلُ الحَق ويُحِقُّ الباطِل، لأنّهُ لم يَقِف على حقيقة الأمر قبلَ أن يُكَذّبه، وقبل أن يُثبِتَه. {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}، كما جاء في صفة من حكى الله سبحانه وتعالى صفتهم {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)} سورة يونس.

  انظر كيف كان عاقبة الظالمين الذين يُكذّبون قبل أن يتبيّنوا، وقبل أن يتثبّتوا، وقبلَ أن يتحقّقوا، الذين يجتنبون في هذا ما جعل اللهُ سبحانه وتعالى فيهم إذ بيّن لهم على أنّهُ يُحاسبُهُم على ما أتاهُم مِنَ العَقل، فكذّبوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بشيءٍ لم يتدبّروه ولم يتأمّلوه ولم يقِفوا على حقيقته، ولا يعرفون إن كان هذا الأمرُ صواباً أم كان خَطَأً، ولا يعرفون إن كان حقاً أم كان باطلاً، لكنّهم هُنا قدّموا باستعجالهم هَواهُم على ما وَجَبَ عليهم اتّباعَهُ، وقدّموا رأيهُم على رأي الإمام الذي يُعَظّمون، وعلى رأي الإمام الذي ذكرنا فيما مَضى (وأيُّ شيءٍ أشَدُّ على قومٍ مِن قومٍ يزعُمُون أنّهُم يأتَمّونَ بقومٍ فيأمرونَهُم، ويَنهَوْنَهُم، فلا يقبَلونَ مِنهُم) يأمرونهم بالشيء فلا يقبلون، ويَنهَونَهُم عن الشيء فلا يقبلون؟!

  ولكُلّ إنسانٍ الحريّة فيما يعتقد وفيما يقول لأنّ الحِساب لله سبحانه وتعالى {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} سورة الغاشية.

  اللهُ عز وجل هو الذي يُحاسبُ خَلْقَهُ، وهو الذي يعلمُ مَن أحسَنَ ومَن أساء، وليس لأحدٍ أن يجعلَ كلامَهُ بمنزلة الفَرْض الإلهيّ، وليس لأحدٍ أن يُنكِرَ سُنَّةً كان يجهَلُها مِن أجل أنَّ نفسَهُ لا تقبَلُ هذا الشيء! فإذا كان -على سبيل المِثال- يكرهُ أن يأكُلَ شيئاً مِن الطعام، فليس له أن يُدخِلَهُ في باب المُحَرّمات، ليس له أن يُدخِلَهُ في باب التحريم بدعوى أنَّ نَفْسَهُ لا تقبَلُهُ.

  فإنَّ الدين لم يُوضَع بالآراء وبالأهواء، ولا يُؤخَذُ بالآراءِ وبالأهواء، وإنّ دين اللهِ لا يُقاس، إنَّ دينَ الله لا يُصابُ بالمَقاييس، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام (لا تَقيسوا الدّينَ فإنَّهُ لا يُقاس).

  لا تقيسوا الدين إنَّ دينَ الله لا يُصابُ بالمَقاييس، وأنَّ أوّلَ مَن قاسَ برأيهِ إبليس {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لقد أمرتني بشيءٍ لا أفعَلُهُ لأني خيرٌ مِن فُلان!

  نَهَى اللهُ سبحانه وتعالى عن القياس في مَوضِعٍ هو مَوضِعُ مُنازَعَةِ صاحِبِ الأمر سُلطانَهُ وأمرَه، ولكنّهُ أمرَ به في إِعمال العقل وفي التَّفَكُّرِ وفي التدبّر وفي التأمُّل وفي الإستقصاء وفي البحث، هو القياس الذي وُصِفَ في كلام الأئمّة، في القياس الذي تعرِفُ العُقول عَدْلَه.

  ليس لأحدٍ أن يَعجَلَ بتكذيبِ شيء لا يعرِفُ حقيقتَه.

  يقولُ مولانا أميرُ المؤمنين عليُّ بنِ أبي طال عليه السلام (فلا تقولوا فيما لا تعرفون، فإنَّ أكثر الحَقِّ فيما تُنكِرون) ومن هنا قال العلاّمة الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه:

لا تُنكِروا كُلَّ ما لَم تَعلَموا   فلَكَمْ أُضِيعَ بالجَحْدِ مَعنًى جِدُّ مُبْتَكَرِ

  ومن هنا قال الشاعر:

ما كُلُّ قَوْلِيَ معروفاً لكم فخُذوا ما   تعرفون وما لم تعرفوا فدَعُوا
كم بين قومٍ قدِ احتالوا لمنطِقِهم   وآخَرينَ على إعرابِهِم ضُبِعوا

  أن يترُكَ الإنسان ما لا يعرِفُهُ هو أعظِمُ حقٍ مِن حقوق الله عز وجل، أنه أخذ على العباد أن يقولوا ما يعرفون وأن يقِفوا عند ما لا يعرِفون. أن يقولوا ما تبيّنَ لهُم وما أشكَلَ عليهم. أن يسكُتوا عنه حتّى يتبيّنوا الوَجهَ فيه، وحتى يعرفوا الحق فيه.

  كثيرٌ ممّن سَمِعَ أو رأى وقَد نَقَلَ ممّا سَمِعَهُ أنَّ بعضَ الناس قالوا برأيهم، لا يجوز أن يُكشَفَ عن وجهِ الميّت بعد غسلهِ وتكفينه من أجل أن يُوَدّعَهُ أهلُهُ، أو من أجل أن يُوَدّعَهُ مَن يُريدُ أن يُوَدِّعَه. ولا نعرِفُ عن أيِّ إمامٍ أخذَ القائلون بهذا؟!

  إذا كان الإقتداء برسول الله (ص وآله) هو الإقتداءُ الواجب، وإذا كان هو القُدوَةُ للخَلق، وإذا كان فِعْلُهُ، سُنَتُهُ مِن قولٍ أو فِعْلٍ أو تقرير، مُصَدَّقَةً ومَأخوذاً بها ومَعمولاً بها، فإنّهُ (ص وآله) كما روى الإمامُ الصّادِق (ع) على ما روى عنه مِمّا يُعَدُّ في بابِ السُّنَّةِ الفِعليّة أنّه قَبَّلَ عُثمانَ بنَ مَظعون رضي الله عنه بعد مَوتِه، وأنَّ الإمامَ الصّادِق (ع) يومَ تُوُفِّيَ وَلَدُهُ إسماعيل اقتدى برسول الله (ص وآله) وبيَّنَ لمن يُريدُ أن يأخُذَ عنه أنَّهُ يجوزُ هذا الأمر، وأنّهُ لا بأسَ فيه، ولا خَطَأَ فيه، ولا عَيبَ فيه.

  جاء قولُهُ عليه السلام لمّا مات ولدُهُ إسماعيل (أمرتُ بهِ وهُوَ مُسَجًّى أن يُكشَفَ عن وَجهِهِ، فقبّلتُ جَبْهَتَهُ وذَقَنَهُ ونَحْرَه) قبلَ أن يُغسَلَ وقبلَ أن يُكَفَّن (ثمّ أمرتُ به فغُطِّيَ، ثمَّ قُلتُ اكشِفوا عنه، فقبّلتُ جَبْهَتَهُ وذَقَنَهُ ونَحْرَه، ثم أمرتُهُم فغَطَّوْه، ثم أمرتُ به فغُسِّلَ، ثُمَّ دخلتُ عليه وقد كُفِّنَ، فقلتُ اكشِفوا عن وَجهِهِ، فقبّلتُ جَبْهَتَهُ وذَقَنَهُ ونَحْرَه وعَوَّذتُهُ، ثم قُلتُ أدرِجُوه).

  هذا حديثُ الإمام الصادق (ع) مُقتديا برسول الله (ص آله) فكفى إذا وقفنا بين يَدَيّ الله أن نَقول فعلنا ما أَمَرَنا به رسول الله، وما أَمَرَنا به الإمام الصادق، وما عَرَفناهُ مِن سُنَّتِهِم وفَعَلتَ أنتَ برأيكَ، فليكُن لَكَ رأيُكَ فإنَّا نقتدي برسول الله، وإنّا نقتدي بالإمام الصّادِق، وليقتَدي كُلُّ إنسانٍ بمن يُريد، نحن لا نُكرِهُ أحداً على أن لا يقتَدِيَ بشيء ولكن الذي نُذَكِّرُ بهِ أنَّه ليسَ لأحدٍ أن يُكَذِّبَ في شيءٍ لا يعلَمُ حقيقتَهُ ولا يتبيّنُ حاله.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن عَرَفَ حَدَّهُ فوَقَفَ عِندَه...