الجمعة 6 شُباط.

أُضيف بتاريخ الأثنين, 08/02/2016 - 12:24
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 6\ شباط \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: النَّهْيُ عَنِ التَّقْلِيْدِ؛ لأَنَّ زَمَنَ الآبَاءِ غَيْرُ زَمَنِ الأَبْنَاءِ، وَأَنَّ الاحْتِجَاجَ بِتَقْلِيْدِ الآبَاءِ لا يَجُوزُ إِلاَّ بِبَصِيْرَةِ مُرَاعَاةِ حَالِهِم وَزَمَانِهِم، وَإِشَارَةٌ إِلَى النَّهْي فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالوَاجِبُ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَعَاوُنٍ وَتَعَاضُدٍ.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: نَحْنُ السَّبَبُ فِي بَلاءِ أَنْفُسِنَا، بِتَصْدِيْقِنَا الإِشَاعَاتِ وَاسْتِعْجَالِنَا فِي الحُكْمِ، وَالتَّحْذِيْرُ مِنَ الفِتَنِ الطَّائِفِيَّةِ وَالمَذْهَبِيَّةِ.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

  ... ما نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله (ص وآله وسلم) عن شيءٍ كما نهى عن التقليدِ بغير بيّنَةٍ ولا دليلٍ ولا بَصيرة.

  وإن كان ذلك الذي تُقلّدُهُ من آبائك، أو من إخوانك، أو من أقرِبائك، فإنَّ البَصيرَةَ من أجل صِحّةِ التقليدِ ينبغي أن تكون عن الله سُبحانه وتعالى، من قُرآنِهِ الكريم وعن لِسانِ نبيّه (ص وآله وسلّم).
وكُلُّنا قرأَ فيما قرأَ من كِتابه تعالى ما حَكَى فيه كيف يُجادلُ مَن كان يُجادِلُ رسوله (ص وآله وسلّم) حينَ يأتيهم بشيء بأنّنا لم نكُن نرى هذا أو نسمَعُ هذا أو نُشاهِدُهُ ممّن سَلَف، وفي ذلك آياتٌ كثيرة منها قولُهُ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (170) البقرة.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (21) لقمان

  ومن الآيات التي بيّنت كيف كان يُجادلُ مَن جادَلَ رسولَ الله (ص وآله وسلّم) بل من كان يُجادلُ الأنبياء جميعاً، وهو لا يأمُرُهُم للعقوق، ولكنّه يأمُرُهم أن يأخُذوا الأمر من مَصدَره الصحيح، أن يأخذوا بما فيه خَيرُهُم وما فيه نفعُهُم، وأن يجتنبوا ما كانوا فيه ممّا يُؤذيهم، ومِمّا يُفسِدُ عليهم دُنياهُم ولذلك كان منهُ قولُهُ سُبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (104) المائدة.

  كُلُّ هذه الآيات جاءت من أجل التنبيه على أنَّ التقليد لا يكون إلاّ للإمام المَعصوم، وعلى أنَّ لِكُلِّ زمنٍ من الأزمنةِ التي مَضَت ولكُلّ زمنٍ من الأزمنةِ التي تأتي حالٌ تختلفُ عن الحال التي كانت سابقةً لها.

  ولقد بلغ من التعنيف ومن التوبيخ أنّ الإمام الرِضا عليه السلام كان قد اشترى دارًا لمولًى له، لخادمٍ له، وقال له إنَّ بيتَكَ ضَيّقٌ فخُذ هذا البيت، فقال لقد أجْزَأَتُ هذه الدار لأبي، فقال له الإمام عليه السلام: (إذا كان أبوك أحمَقًا، أفَيَنبَغي أن تكونَ مِثلَه؟!)

  كيف كان المُشركون يُجادلون رسول الله؟
كانوا ينسُبُونَ الفَواحِشَ إلى آبائهم، { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (28) الأعراف.

  لِكُلّ زمنٍ، ولِكُلِّ عَصرٍ حالةٌ تُخالِفُ بطبيعتها حال الزمن الذي مَضى، ولقد تيسّرَ في هذا الزمن ما لم يكُن مُيَسَّراً من قبل، ولكنّنا تركنا من عاداتِنا العاداتَ الطيّبَةَ الكريمةَ لنتمسّكَ بالعاداتِ التي لا تنفعُ ولا تُغني!!.

  لقد كُنّا نسمَعُ بزمنِ الآباء أنَّ أحَدَهُم إذا أراد أن يَبنِيَ بَيتاً لم يكُن يسألُ أحداً أن يُعينَهُ على ذلك البِناء، بل كان النّاس يتوافَدون إليه، ويجتمعون من أجل مُساعدته على عمل البِرِّ والخير.

  كان إذا مَرِضَ أَحَدُهُم لم يَحتَج أحدٌ إلى أن يُخبرهُ أنَّ فُلاناً يحتاجُ إلى أن تَعُودَهُ في مَنزله، كان إذا شكى أَحَدُهُم نائِبةً أو ضيقاً أو فَقراً، قام الذين يعرفون حَقَّ الله وحَقَّ الجِوار، وحَمَلوا له ما تيسّرَ مِن مالهم من أجل أن يُعينوه على أُمور دُنياه.

  لقد تركنا ما كان عليه الآباءُ مِن طيبٍ، وتمسّكنا بما ثَبَّتَ لنا هذا الزمن مع عَدَمِ الإستفادةِ من الخير الذي فيه، إنّما سَخَّرناه فيما لا ينفع!.

  ولعلَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَرحَمُ مَن يستحقُّ رحمته، ولعلّه يوقِظُ في قُلوبِنا وفي صُدورنا أن نرجِعَ إلى التّعاون وإلى البِرّ وإلى الخير، أن نرجع إذا سمِعنا أنَّ لنا جاراً تُوُفِّيَ أو أنَّ لنا أحداً أصابهُ شيء، أن نكونَ في جِوارِه، أن ندخُلَ لكيّ نُشاركَ في عَمَلٍ علمنا أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى كتب لنا فيه أجراً وثوابًا.

  لماذا يكثُرُ الناس إذا ذهبتَ لتبحثَ عنهم في مكانٍ لا ينتفعونَ منه بشيء، وإذا دخلتَ من أجل أن تغسلَ مَيِّتاً بالواجِب الشَّرعِيّ لم تجِد هناك إلاّ قِلَّةً قليلة!! مع أنّنا نعلم أنّه جاء في الحَديث أنَّ (مَن غَسَلَ مَيّتاً فقد خرج مِن ذُنوبه كأنّهُ في يومٍ وَلَدَتهُ أُمُّهُ فيه).
ونعلمُ أنّ من رَفَعَ في الجنازة، أي من حَمَلَ مِن كُلّ جانب أخرجَ اللهُ تعالى حالهُ، وغفر له ذُنُوبَهُ، وأصلَحَ لهُ أيّامَه.

  ونعلمُ أنَّ مَن عادَ مريضاً وَكَّلَ اللهُ تعالى به مَلائِكةً تعُودُهُ في قَبرِه.

والحمدُ لله أنَّ فينا بقيَّةً لا تزالُ، شاهدناها بالأمسِ القريب في بعض الجِنازاة التي كانت وكان النّاس قد أقبلوا إليها مُسرعين يبتغونَ ثوابَ اللهِ عزّ وجَلّ، ولكنّ الأمر يجب أن يُنَبَّهَ على فَضلِه، ويَجِبُ أن يُحَرَّضَ عليه، فإنّهُ ما مِن أحدٍ سيكون خالدًا في هذه الحياة. فالواجِبُ على الرّجُلِ الذي صار َ والداً أن يُحَرّضَ أبناءَهُ على اكتسابِ هذه الفَضيلة، أن يُحَرِّضَهُم على تَشييع الجَنائِز، وأن يُحَرِّضَهُم على عِيادة المَرضى، وأن يُحَرّضَهُم على مُساعَدَةِ الفُقراء، وأن يُحرّضهُم وأن يُعَلّمَهم كيف يُساعدون المسكين، وكيف يُعينون الذي قُطِعَ به السبيل.

  بمِثلِ هذا يُثيبُ اللهُ سبحانه وتعالى ذلك الرّجُل الذي نَشَّأَ أبناءهُ على هذا، وليس -أيُّها الإخوة- لنا نحن من الحق أن نُبطِلَ السُنَن التي كانت تَتَّصِلُ بسُنّةِ رسول الله (ص وآله وسلّم) لنُحيِيَ مَكانها ما لا ينفعُنا ونحنُ نعلَمُ أنّهُ لا ينفعُنا.

  إنَّ كثيراً من العادات، بل إنَّ كثيراً من كُلِّ شيء يكون على قِسمَين: يكون على قِسْمٍ نافِعٍ وجَيّد ومِنَ الواجِبِ علينا أن نُحافِظَ عليه وأن نُحييَهُ كُلَّما اندَثَرَ. وعلى قِسمٍ ليس فيه شيءٌ مِنَ المَنافِع، وليس فيه شيءٌ مِنَ الخير.

  لننظُر فيما نحنُ عليه فما وجدناه ينفَعُ الناس، فمن الواجِبِ علينا أن نجتهِدَ في إحيائهِ، وفي المُحافظةِ عليه، لأنّ خَيْرَ النّاس –كما جاء في الحديث الشريف- (خَيْرُ النّاس مَن انتَفَعَ به النّاس).
فلنجتهد أن ننظُرَ فيما نحنُ عليه.

  هناكَ أشياءُ من أعمال الجاهلية لا تزال في أمّةِ رسول الله (ص وآله) كما جاء في الحديث الشريف حين قال: (أربعةُ أشياءَ لا تزالُ في أُمّتي إلى يوم القِيامَة: الفَخرُ بالأحساب، والطّعنُ في الأنساب، والإستسقاءُ بالنّجوم، والنِّياحَة).
هذا الفَخرُ وهذا الطَّعن! مع أنّنا نعلمُ أنّ اللهَ سبحانه وتعالى دلّنا في كتابه أنّه (ما مِن إنسانٍ يحمِلُ وِزرَ غَيرِه)، ولو كان أباً له، ولو كان أخاً له، وإن كان قريباً إليه فإنّهُ لا يستطيع أن يحمِلَ عنهُ سيّئةً واحدَة، ولا يستطيعُ أن يُعطِيَهُ حَسَنَةً واحدة.

العِلمُ زَيْنٌ وتشريفٌ لصاحبه   فاطلُب هُديتَ فُنونَ العِلمِ والأدَبَ
كَمْ سَيِّدٌ بَطَلٌ آباؤه نُجُبٌ   كانوا رُؤوساً فأمسَى بعدَهُم ذَنَبَا

  ورُبَّ رجُلٍ كان خامدَ الذِّكر، لكنّهُ حَصَّلَ بتحصيله من العلم والأدب ما لم يُحَصّلُهُ غيرُه.

  العادةُ، كُلُّ عادةٍ يجبُ أن ننظُرَ فيها، فإن رأيناها تنفَعُ النّاس فمن الواجِب علينا أن نُحافِظَ عليها، وإن رأيناها لا تنفَع فالواجِبُ علينا أن نُهمِلَها، وأن نترُكَهَا حتى تندثِرَ كما اندثرَ غيرُها، وانمحى ذِكرُه.

  ولكن الذي نراه أنّنا في بعض المَواضِع نُحافِظُ على عاداتٍ سيّئة، نُسيءُ بها إلى جارِنا ونُسيءُ بها إلى أهلنا، ونُسيءُ بها إلى أصدقائنا، ونترُكُ في بعض المواضِع ما نعلَمُ أنَّ فيه الخير، وأنّ فيه النَّفع، وأنّهُ في طاعة الله سُبحانه وتعالى، وأنّهُ في طاعة رسوله (ص وآله). وهذا لا يَعيبُ أحداً أيُّها الإخوة، فإنَّ الناس لا يولدوا ولن يولدَ إلاّ مَن شاء اللهُ سبحانه وتعالى أن يُولَدَ أحَدُنا وهُوَ قد أصابَ من العِلم شيئاً، كُلُّنا نعلم { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ ..} (78) النحل. إنّما يتعلّم الإنسان.

  وفي كُلّ مُجتمعٍ من العادات الحَسَنة ومن العادات السيّئة ما فيه، يقول ممّا قاله بعضُ علمائنا ومنهم الشيخ ابراهيم سَعّود رحمه الله، وهو يُشير إلى ما كان من عاداتٍ، حتّى أنّه اعترفَ بأنّها تُرضي النّاس وليست من العادات التي فيها طاعةٌ لله عز وجل، يقول رحمه الله:

نشأتُ وعادتي كالغَيْرِ جاءتْ   بِما يُرضي البَرِيَّةَ لا الإلهَ

  نشأتُ وعادتي كالغَيْرِ، لأن هناك من الناس كثيرًا من يتقيّد بهذا دون أن ينظُر إلى صِحَّةِ هذا الأمر وإلى درجةِ موافقتهِ أو مُخالفته لكتاب الله عز وجل.

نشأتُ وعادتي كالغَيْرِ جاءتْ   بِما يُرضي البَرِيَّةَ لا الإلهَ
وبالعاداتِ جَرَّت كُلَّ وَيلٍ   على الأقوام مُذ تَبِعوا هواها
وما بَرِحَتْ عَوائِدُنا قُيودًا   تُقَيِّدُ كُلَّ نَفسٍ عَن هُداها

  وقال رحمه الله:

خُذِي عَنِّي عَوائِدَ لستُ مِمَّن   يُرَجِّي في إقامَتِها ثَوابا
لماذا؟ لأنّها أورَثَت البَغضاء، ولأنّها أورَثَت الشحناء، ولأنّها أورثت من الأحقاد ما أورثَت.
خُذِي عَنِّي عَوائِدَ لستُ   مِمَّن يُرَجِّي في إقامَتِها ثَوابا
ومَكَّنَ الغَوايةَ مِن نُفُوسٍ   تَعَدَّت في إرادتها الصَّوابَ
ولو نَشَأَ الصِّغارُ على إخاءٍ   لَمَا أَحَدٌ على التَّفريقِ شابَ

  نسألُ الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن يتبيَّنُ في دينه، وممّن يسلُكُ على بَصيرَة، ومِمَّن لا يُقَلِّدُ إلاّ مَن كان في تقليده من الخير للناس ومن النّفعِ للناس ما يُكسِبُهُ الثوابَ يومَ يقِفُ بين يَدَيّ الله عزّ وجَلّ، وإن كان هذا الأمرُ اجتهاداً مِن فُلان أو رأياً مِن فُلان حتّى يكونَ لهُ أصلٌ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلّ.

  يقول الشيخ مُحمّد حَسَن شَعبان رحمه الله:

ديني على عِلمٍ سَلَكتُ سبيلَهُ   أن لا أُقَلّدَ فيه غَيْرَ مُقَلَّدِ
كُلُّ اجتهادٍ باطلٌ إن أوْصَدَت   أبوابَهُ فِئَةٌ وإنْ لم تُوصِدِ
إلاّ إذا رَجَعَت حقيقتُهُ إلى   أصلٍ بآياتِ الكِتابِ مٌؤَيَّدِ

  والتطوُّرُ سُنَّةُ الله عز وجل في خَلْقِه، ولهذا كان يُستفادُ مِن حديث الإمام الصّادق عليه السلام، يوم دَخَل عليه سُفيانُ الثَّورِيّ ورأى عليه ثِياباً بيضاء، قال له: إنَّ هذا ليس مِن لِباسِكَ، ما كان رسولُ اللهِ يلبَسُ مثلَ هذا! فقال الإمام عليه السلام –ممّا قالهُ له- : (إنَّ رسول الله كان في زمنٍ مُقفِرٍ جَشِب، فإذا أقبَلَتِ الدُّنيا فأَحَقُّ أهلِها بها هم مُؤمنوها لا مُنافِقوها، أبرارُها لا فُجّارُها، مُسلموها لا كُفّارُها).

  نسألُ الله سبحانه وتعالى لنا ولكُم ولمن سمع كلامنا ولمن حَضَرَ معنا حُسنَ العاقبة، أسألُكَ يا غافِرَ الذَنبِ الكبير، ويا جابر العَظمِ الكَسير، أن تهَبَ لنا موبِقاتِ الجَرائِرِ، وأن تستُرَ علينا فاضِحاتِ السّرائر....

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  قلنا غَيرَ مَرَّة أنَّ الإنسان يكتسِبُ مِن بيئتِهِ، وقد يستطيع أن يُكسِبَ بيئتَهُ أو مُحيطَهُ الذي يكونُ فيه شيئاً مِن الخير، أو شيئاً من النَّفع، أو شيئاً من تنظيم الأمور، أو شيئاً من ترتيبها.

  ولكُلِّ مُجتمعٍ كما تعلمون أعرافٌ تَسودُ وتكون شائعةً يرجِعُ إليها الناس، أو تُصبِحُ بينهم بمنزلةِ قاعِدَةٍ تُبنى عليها الأحكام، أو تُقاسُ عليها الأمور.

  وهُناك في كثيرٍ من الأحاديث ما جاء من كلام الأئمة أهلِ بيت رسول الله (ص وآله) في مُراعاةِ عُرفِ البَلَد، في الأمور التي لَم يَرِد فيها نَصٌّ، أو لم يكُن في فِعلها شيءٌ يُخالفُ نَصّاً، أو شيءٌ يُعارِضُ أو يُناقِضُ أصلاً من الأُصول التي أمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى عِبادَهُ بها.

  في حالةٍ أصابَت البَلَد اليوم، كان منشؤها وسببُها كيفما نظرنا ومن حيثما أردنا تعليلها أنّها ترجِعُ إلى سببٍ واحد، ذلك السّبب هو التّعصُّبُ في جميع وُجوهِه لنَهجٍ ما أو مدرسةٍ ما أو رجُلٍ ما، وذلك أنَّ مَن أرادَ الحرب، أو من أراد إفساد هذا البلد، لو أنّهُ قَدَّمَ ما قَدَّمَ مِن سِلاحٍ أم مِن رِجال ولم يكُن هُناك مِنَ الناس من يقبَلُ أو يَرضى بمثلِ ما يُحاول أن يملأ بهِ صدره، أو أن يَحشُوَ به عقله لَمَا استطاعَ أن يُحدِثَ شيئاً.

  إذا وَجَدتَ على سبيل المِثال ألفَ بُندُقِيّةٍ أو ألفَ سيف ولم تجد من يحمِلُ هذا السّلاح فإنّكَ لن تستطيع أن تُحدِثَ شيئاً.

  والإصلاح حين يُريد أحدٌ أن يفتحَ بابَهُ فإنّهُ عليه أن يبدأ بنفسه، ثم عليه أن يعلم أنّهُ لا تصلُحُ الأرض إلاّ بِصَلاحِ أهلِها. الأرضُ تصلُحُ بِصَلاحِ أهلِها، وتفسُدُ بفسادِ أهلِها، وما الذي جَعَلَ الأُمور على ما نرى من تقاطُعٍ، ومن تَخاصُمٍ، ومِن قَتلٍ، ومِن سَفكٍ للدّماء، إلاّ ما كان مِن كَلامٍ كانت تُؤيّدُهُ في بعض الأحيان، بعضُ الأفعال من الذين يجبُ أن يُدخَلوا في فئةِ الجَهَلَة، الذين حين يفعلون بعض الأفعال لا يعلمون أنّهم بهذا لا يُفسِدون إلى أنفُسِهِم فقط، إنّما هم يُسيئونَ إلى مَن حولهم، يُسيئون إلى البيت الذي وُلِدوا فيه، وإلى الأهل الذين يُنسبون إليهم، وإلى المكان الذي يَرجعون إليه في نسبِهِم، إن ذهبوا أو نزلوا في مكان، وما سمِعناهُ مِن كلامٍ قالهُ بعضُ مَن سُئلَ لماذا حَرَّضتَ الناس وألَّبتَ النّاس، ولماذا حَرَّضتَ فُلاناً، ولماذا حاولتَ أن تجعَلَ الدّماء وسيلةً بين الناس مَكانَ الرّحمة، ومكانَ المَحَبَّة، ومكانَ التواصُل، لم يكُن ذلك الرّجل ليَعرِفَ سبباً لما قالهُ، إلاّ أنّهُ كان سبباً في بَلاءِ نفسه.

  يومَ وقعَت -كما ذكرَ المُؤلّفون ومنهم الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله- بعضُ الحَوادِثِ في زمن الإحتلال العُثمانيّ هُنا في هذه الجِبال، كتب يسألُ الشيخ سُليمان أحمد رحمه الله عن رأيِهِ في هذه الحوادث الأخيرة، فكان من كلامِهِ أنّه قال: (إنَّ الشرقيين هُمُ السَّبَبُ في بَلاء أنفُسِهِم) نحنُ السببُ في بَلاء أنفُسِنا، لا يجوز أن نُحَمِّلَ غيرنا تَبِعَةَ هذا الأمر، لأنّهُ كما ذكرنا لو لم يجد من يرضَ لما استطاع أن يجد سبيلاً إلى الفَساد، أو سبيلاً إلى الأذى، أو سبيلاً إلى الذي جعلنا في هذه الحال، بيوتٌ تُدَمَّر، وبُيوتٌ تُحرَق، وهذا يُفقَد، وهذا يُقتل.

  التعصُّبُ في كُلّ شيء، هو الأمرُ الذي نَبَّهَ عليه كثيرٌ من شيوخِنا السابقين رحمهم الله، وأنَّ الذي يأتيكَ مِن مسلماً كانَ أم لم يكُن مُسلماً، يُحَرِّضُ أو يُؤَلِّبُ أو يُريد الفِتَنة، فهو وإن تغيّرَ في كلامِهِ أو تغيّرَ في زِيِّهِ أو تغيّر في اسمِهِ، فإنّما هو واحدٌ يحملٌ غرضاً واحداً ويُريدٌ قصداً واحداً لا يُريدُ به الخير لأحد.

  لمّا شاعت مِثلُ هذه الأمور، كتب الشيخ سُليمان الأحمد رحمه الله يقول فيما كتبه مُحَذِراً من أنَّ العَدُوّ إذا أراد الأمّة، فإنّهُ يُغيّرُ اسمَهُ، ويُغَيّرُ صِفَتَهُ ولكنّهُ يأتي بهدفٍ واحِدٍ، ويأتي بغَرَضٍ واحد، مهما كان اسمُهُ وكيفما تعدّدَت ألقابُه،يقولُ رَحِمَهُ الله:

ليس لنا يا قومي في بريطانيا   العُظمى لنا عزاءٌ ولا الألمانِ
هل رأيتُم كيفَ التَّرَفُّضُ   والنَّصْبُ بنا قد أدَّيَا إلى الأهْوانِ
قسماً ما رَقُوا وفازوا إلى أن   طَرَحُوا مِن تَعَصُّبِ الأديانِ
قَد تَجَلّى مَعنى الحَياةِ عليهم   وعلينا الألفاظ دونَ مَعاني

  ويقول الشيخ يعقوب الحَسَن رحمه الله فيما نُشِرَ في ثلاثينيّات المئة الماضية القرن الماضي في مجلّة النّهضة:

إنّ التعَصُّبَ في الأديانِ موبِقَةٌ   أليسَ بالحَقِ لا نُكراً أتى موسى

  ويقول الشيخ إبراهيم سَعّود رحمه الله:

بذلنا للتَّعَصُّبِ كُلَّ خَيرٍ   ولَم نَأمَن مَع البّذلِ العِقابَ

  فلو أنّنا جمعنا هذا الأمر وجعلناهُ في التّعصُّبِ للخير وللنّفع لَكانَ أسلَمَ لنا ولكُنّا حقّقنا به وفعلنا به ما لم نفعلهُ بغيره.

يقول الشيخ سُليمان الأحمد رحمه الله:

هيهاتَ لا يَنصُرُ الدّينَ الحَنيفَ   فَتىً على تَعَصُّبِهِ والجَهْلِ يستَنِدُ

  ويقول في قصيدةٍ أُخرى:

ولو تَعَصَّبتُمُ للحَقِّ عُصْبَتَكُم   لِغَيْرِهِ ما شانَكُم قَطُّ إنسانُ

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممّن شَرَحَ صَدرَهُ في ذِكرِه، وممّن مَلأ قلبَهُ بأنوار العِلم...