الجُمُعَة 5 حزيران

أُضيف بتاريخ الخميس, 21/07/2016 - 16:00
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 5 \ حزيران \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: السرور الحقيقيّ، وبما يكون، وكيف يكونُ.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: بِقَدْرِ السُّرُورِ يَكُونُ التّنْغِيْصُ، البَلاءِ عَلَى قَدْرِ الهَنَاءِ، وَالمُصِيْبَةُ عَلَى قَدْرِ الرَّخَاءِ.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
  ..سرور الإنسان بما يملِكُ منَ الدُّنيا، وبما يستطيعُ أن يبلُغَهُ، سرورٌ يحمِلُهُ في بعضِ المَواضِعِ وفي أكثرِ الأوقات على أن يستعجل في تقديرِهِ وفي حُكمِهِ وفي تعليلِهِ لما يُصيبُه.
إذا سَرَّهُ شيء لم يعرف له سببًا، وإذا حَزَنَهُ شيء لم يعرف له سببًا! لم يعرف له سببًا لأنّهُ لا يُحِبُّ أن يبحَثَ عن سببِهِ ولا أن يكشِفَ عن عِلَّتِهِ، لأنَّ تقديرهُ لوُقوعِ هذا السّرور أو لِنُزُولِ هذا الحُزْن تقديرٌ يكونُ في أكثَرِ الأوقات تقديرًا خاطئًا.

  إذا بَلَغَ أَحَدُنا شيئًا من الدُّنيا، أو نالَ منها شيئًا يَسُرُّهُ، فكانَ لهُ من ذلك ما أراد مِمَّا يُسَبِّبُ لهُ السُّرور، فهل كان ذلك الشيء الذي نالَهُ شيئًا وَصَلَ إليه أو بَلَغَهُ أو مَلَكَهُ بِقُدرَتِهِ وباستِطاعَتِهِ، أم أنَّهُ شيءٌ قَدَّرَهُ اللهُ سبحانه وتعالى وهَيَأ لهُ أسبابَ وُقُوعِهِ؟!
كان شيئًا في قَضاءِ الله عز وجل، هيّأهُ وقَدَّرَهُ حتّى بلغَ الإنسانُ منه سَوَاءٌ أَكانَ في سُرورٍ أم في حُزْنٍ وبَلاء.

  سرورُنا على شيءٍ إذا بَلَغناه ونحن نُوقِنُ، ومَن لم يَكُن موقِنًا بأنّهُ لا ينالُ شيئًا غير ما قَدَّرَ اللهُ سُبحانه وتعالى وغَيْرَ ما كُتِبَ له وما قُسِمَ له، يجبُ أن ينظُرَ إذا أصابَ من السّرور شيئًا.

  في حديث أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام: (أمّا بعدَ، فإنَّ المرءَ قد يَسُرُّهُ دَرَكُ ما لَم يكُن ليَفُوتَه). يسُرُّهُ إذا أصابَ شيئًا لم يكن ذلك الشيء ليَفوتَهُ ولم يكُن ليَنصَرِفَ عنه إلى غيره.

  (أمّا بعدَ، فإنَّ المرءَ قد يَسُرُّهُ دَرَكُ ما لَم يكُن ليَفُوتَه، ويسُؤهُ فَوْتُ ما لَم يكُن ليُدرِكَه). تسُرُّهُ النِّعمَةُ التي سوف تأتيه، شاءَ أم أبى، ورضيَ أم لَم يَرضَ، لأنهّ لا يستطيعُ أن يدفَعَ قضاءَ اللهِ عزّ وجل، ولا أن يرُدَّ قَدَرَهُ، فهو يُسَرُّ بهذا، يَسُرُّهُ ما يأتيهِ مِنَ الخير، ولكنّهُ يأسى ويحزن إذا لم يُدرِك شيئًا ليس في تقدير الله عز وجل أن يبلُغَهُ أو أن يَنَالَه!
(يَسُرُّهُ دَرَكُ ما لَم يكُن ليَفُوتَه) هو ممّا قَسَم الله سبحانه وتعالى لَه، (ويسُؤهُ فَوْتُ ما لَم يكُن ليُدرِكَه) إذا تَعَّذَرَ عليه بُلُوغُ أمرٍ لم يكُن في قَضاءِ الله عز وجل، ولا في تقديرِهِ أن يبلُغَهُ أو أن يَنَالَهُ أو أن يملِكَهُ، فإنّهُ يَسوؤُه، يُحزِنُه، يحزَنُ وقَد فات شيءٌ ليس في قَضاءِ الله أنّهُ له! (يَسُرُّهُ دَرَكُ ما لَم يكُن ليَفُوتَه، ويسُؤهُ فَوْتُ ما لَم يكُن ليُدرِكَه).

  إذا سَرَّهُ الشيءُ الذي في تقدير الله عز وجل أنّهُ لهُ وحَزَنَهُ وكَدَّرَهُ الشيءُ الذي يُوقِنُ أنّهُ ليس له، فكيف يكون سُرورُهُ وكيف يكونُ حُزنُه!؟ على أيّ شيءٍ بنى هذه القاعِدَةَ التي يُسَرُّ بها ويَحْزَن؟!

  يسُرُّهُ شيء يعلمُ أنّهُ له ولا يستطيع أن يَدفَعَه، ويحزُنُهُ شيء لم يَصِل إليه وهُوَ لا يستطيع أن يصِلَ إليه لأنَّ الذي جاءهُ من السّرور لم يكُن بقُدرتِه بل كان بقُدرةِ اللهِ عز وجل، والذي أصابهُ من البَلاء لم يكُن قادرًا على ردّهِ ودَفعِه، لأنّهُ من شيءٍ يُجازيه به على خطئِهِ وعلى ذَنبِه.

  فكيف يكون سروره؟ وكيف يكون حَزَنُه؟

  فليكُن سُرورُكَ على ما جاء في كلام أمير المؤمنين (فليكُن سُرورُكَ على ما نِلْتَ مِن آخِرَتِكَ، وليكُن أَسَفُكَ على ما فاتَكَ مِنها، وما نِلْتَ مِن دُنياك فلا تُكثِر به فرحا، ولا تأسى عليه جَزَعا، وليكُن هَمُّكَ فيما بعدَ المَوت) هناك فيما بعد الموت، إمّا أن تكون مسرورًا، وإمّا أن ترجِعَ حزينًا خائبا.

  سرورُكَ بالشيء الذي تأخُذُهُ في الدنيا، سرورٌ ينقطِعُ لأن الحياة فيها حياةٌ مُنقَطِعَة، وسرورٌ آفِلٌ وزائلٌ، لأنَّ الذي أصابَهُ ذلك السرور لا بُدَّ أن يرحَل من هذه الدُّنيا في يومٍ من الأيّام، فكيف يكون سرورُه الباقي الذي يُستحبُّ له أن يُسَرَّ به، والذي يَليقُ به ويجب عليه أن يَسُرَّه.

  لا يَحزَنَنَّ على شيءٍ فقَدَهُ مِن دُنياه، إنّما ليكُن سُروره بالشيء يدفعُهُ يومَ يقوم الناس لرب العالمين، إن استطاع أن يجعَلَ ممّا نالهُ في هذه الدُّنيا سبيلاً: إلى سُرورٍ لا ينقطِع، وإلى نِعْمَةٍ لا تَنفَد.

  فذلكَ هوَ السّرور الذي يجبُ أن ينظُرَ في العِلَلَ وفي الأسباب التي تُقَرّبُه والتي تُبعِدُه.
(ليكُن سُرورُكَ على ما نِلْتَ مِن آخِرَتِكَ)
ليكُن السُّرور بالعَمَل الصّالِح.
ليكُن السُّرور بشيءٍ تنفَعُ به الناس.
ليكُن السُّرور بشيءٍ يبقى أثَرُهُ بعدَ مُغادَرَةِ هذه الدُّنيا.
بمثل هذا يجب أن يكون السّرور.

  من طبيعةِ الإنسان أن يسُرَّهُ ما يَبلُغُ في الدنيا وما يملك، لكن هذا لا يُجيزُ له أن يُكثِرَ الفَرَحَ به، وأن ينسى أنّ له يومًا لا ينفَعُهُ فيه إن لم يكُن حَمَلَ معهُ من العَمَل ما يسُرُّهُ، يومَ لا يستطيعُ أن يعمَلَ بعدها. (فليكُن سُرورُكَ على ما نِلْتَ مِن آخِرَتِكَ).

  كُلُّ إنسانِ حين يولدُ يولدُ باكيًا، والنّاس يضحكون من حَولِه، لكنَّ لهُ يومًا سوف يبكي فيه، له يومٌ لا يدري إن لم يكن قدّمَ صالحاً إن كان سيبكي فيه أم سيفرح! يبكي والناسُ تضحك، وسيكون هؤلاء الذين ضحِكوا لولادتِه، يبكون عليه يومَ مَوْتِه، وفي هذا كان القول المشهور:

وَلَدَتْكَ أُمُّكَ يابنَ آدَم باكيًا   والناسُ حَولَكَ يضحَكونَ سُرورا
فاحرِص لنفسِكَ أن تكونَ إذا بَكَوْ   في يومِ مَوتِكَ ضاحِكًا مسرورا

  وما الذي يجعَلُهُ مسرورًا يومَ مَوتِه إن لم يكُن قد سَرَّهُ في دُنياه ما قَدَّمَ من الطّاعَة، وحَزَنَهُ وأبكاه ما أسلَفَ من المعصية ومن الذُنوب؟!

  سُرور المؤمن في طاعة ربّه، وحُزنُهُ على ذَنْبِه.

  بهذا يكون سرور مَن أرادَ أن يكون مسرورًا، يومَ لا يستطيع أن يزيد على عَمَلِهِ شيئًا، ولا يستطيع أن يُقَدِّمَ عملاً وهو عاجزٌ لا يستطيعُ من الحَرَكَةِ شيئاً. هذا هو السرور، وبمثل هذا يجبُ عليه أن يفرح، أن يَسُرَّهُ عملٌ صالحٌ في الدنيا، وأن يَسُوؤَهُ وأن يُحزِنَهُ ما أسلفَ من الخطأ لعلّهُ يتوب، ولعلّهُ يرجِع وهو يستطيع أن يتوب ويستطيعُ أن يرجع، قبل أن يأتيَهُ اليوم الذي لا يستطيعُ فيه أن يتوب ولا يستطيعُ فيه أن يرجع.

  سُرور المؤمن وسرور الذي يُريد أن لا ينقطِعَ سُروره هو بالعمل الصالح الذي يُقدّمُهُ في دُنياه، أمّا ما كان مِن نِعمَةٍ أصابها أو مِن لَذَّةٍ أصابها، أو من شيءٍ أصابهُ لم ينتفِع منه بعمَلٍ صالح يبقى أثرُهُ، فهو سُرورٌ ليس بالسرور الذي يكون له في يوم القِيامةِ سببًا من أسباب سُروره، سيكون ذلك الأمر سببًا من أسباب حُزنِهِ وانكِسارِه، وتمنِّيه أن لو فَعَلت وليتني فَعَلت.

  فليكُن سُرورُنا بما نُقَدِّمُ من عَمَلٍ نعلمُ أنَّ ثوابَهُ يومَ نلقى الله عز وجل، وليكُن حُزنُنَا على ما أسلفنا من خطئٍ ومن ذُنوب، وعلى أعمارنا التي تضيع، فإنَّ أحَدَنا لا يستقبِلُ يوماً من عُمُرِهِ إلاّ بفِراق آخَر من أَجَلِهِ، يومَ تبني يومًا من عُمُرِكَ فأنتَ تُهَدِّمُ يومًا مِن أَجَلِكَ.

  بمثل هذا يفرحُ العُلماء، وعلى قِلّةِ الطّاعة، وعلى كَثرَةِ المَعصِيَة، وعلى ما أُسلِفَ من الذُّنوب يكون الحُزن.

  يقول في هذا العلّامة الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُه عليه وهُوَ يُسَمِّي الدُّنيا ويصِفُها:

ظَنَّت سُعادُ وقَد رَأتنِي باكيًا   حُزني على تفريخ ما جَمَّعتُهُ
لم أبكي شيئًا فاتَ منها إنّما   أبكي على عُمُري الذي ضَيَّعْتُهُ

  نسألُ الله سبحانه وتعالى أن يجعلَ سُرورنا فيما يُرضيه، وأن يجعَلَ أسَفَنا وغَمَّنا وحُزننا على ذَنْبٍ ارتكبناه، أو على معصِيَةٍ أسلفناها، فإنَّ السيّئةَ التي تسوء خيرٌ من الحسنة التي تُعجِبُك، فرُبّما كان من ذلك الإعجاب ما يجعلُ المرء مُقصِّرًا في عمله، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يسُرُّهُم ما يُقدّمون من العمل الصالح ومن الطّاعة، ومن الذين يأسفون على ما فاتهم من شيءٍ يُقَرِّبُهُم ومن شيءٍ يجعلُهُم آمنين يوم يقوم الناس لرب العالمين.

  اللهم صلّ على محمد وآل محمد...

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  .. (بِقَدْرِ السّرور يكون التَّنْغِيص) في حديث أمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب عليه السلام، بِقَدْرِ سُرور المَرء يكونُ تنغيصُه، كالذي إذا كان هَمُّهُ في شيءٍ عظيم كان غَمُّهُ واهتمامُهُ إذا فَقَدَ ذلك الشيء همًّا عظيمًا وغَمًّا عظيما.

  والذي يكون هَمُّهُ في شيءٍ صَغير، يكونُ غَمُّهُ صغيرًا على قَدرِ ما يهتَم، وعلى قَدْرِ ما يَطلُب. (بِقَدْرِ السّرور يكون التَّنْغِيص).

  والإنسانُ في دُنياه لا ينالُ نِعْمَةً إلاّ بفِراقِ أُخرى، فالذي إذا نَظَرَ في حالِهِ، كيف هُوَ اليوم، وكيف كان بالأمس، وكيف كان قبلَ ذلك.

  فلينظُر كيف كان حالُه، وكيف كانت حياتُه، وكيف كان آمِنًا، وكيف كان في أكثرِ الأوقات قادرًا على أن يبلُغَ منَ الدُّنيا يَسيرًا إن لم يكُن بَلَغَ شيئًا عظيما.
لينظُر كيف كان حالُه، ثم لينظُر اليوم كيف صارت حالُهُ؟!
البلاء الذي فيه، والحُزنُ والكَدَرُ والتَّنغيص، إذا وازَنَ بينهما! أليس الكَدَرُ والتّنغيص والخوف الذي فيه بقدر السّرور الذي كان فيه!؟
أليس الخوف الذي صار فيه اليوم بقَدرِ الأمن الذي كان فيه قبل ذلك؟!
أليس الفقرُ الذي هو فيه بقدر اليُسرِ الذي كان فيه قبل ذلك؟!
أليس الحُزنُ الذي أصابه بقَدر السرور الذي كان أصابهُ فيما مضى من أيّامِ عُمُرِه.

  ومن نظر في هذين ليُوازِنَ بينهُما وليُقارِنَ بينهما، لينظرَ إن كان التنغيصُ بقَدر السّرور أم لم يكُن؟!.

  كُلُّنا يحفَظ ويعمل وفي ذِهْنِهِ أنّهُ يجب عليه أن يدَّخِرَ شيئًا من مالِهِ ليومِ نائبةٍ وليومِ حاجةٍ وليومٍ قد نضطّرُّ فيه إلى الذهاب من أجل أن يتداوى من داءٍ أصابَه، ففي ذِهْنِهِ أن يدّخِرَ في ذلك اليوم شيئاً ليومٍ يخافُ قُدُوَمهُ، شيئاً ليومٍ يكفي ما ادّخَرَهُ فيه أن يكُفَّهُ عن حاجة الناس.

  كُلُّ هذا ممّا يدّخِرُهُ ويحتفِظُ فيه في دُنياه لأجلِ يومٍ سيأتيه في دُنياه.

  فهل ادّخَرَ عَمَلاً ينفَعُهُ في آخِرَتِه كما ادّخَرَ مالاً خَوفَ الفَقرِ في دُنياه؟!

  هل اجتنَبَ أَحَدُنا الذَنوب خَوفَ اليوم الذي سيأتي وسيُحاسبُ فيه على تلك الذُّنوب التي أسلفها.!؟

  هلِ احتَفَظَ بعَمَلِهِ الصّالِح كما يحتفظ بمالِهِ خَوفَ داءٍ قد يُجبِرُهُ على أن يُنفِقَ ذلك المال من أجل صِحَّةِ جَسَدِه، فهل احتفَظَ بعملٍ صالحٍ كما احتفظَ بذلك المال! وادّخَرَ عملاً ينفعُهُ يوم لا يستطيعُ أن يستَدعِيَ طبيبًا! يوم إذا نَظَرَ تذَكَّرَ قول أبي ذَرّ الغِفارِيّ رضي الله عنه وقد حضرهُ الموت،
ألا نُحضِرُ لك طبيبًا؟
قال: الطبيبُ أمرَضَني.
قالوا: ماذا، مِمَّا تشكو؟
قال: أشكو ذُنوبي، وأرجو رحمةَ الله.

  إذا كان ذلك اليوم الذي قد لا يأتي ندّخِرُ له فهل ادّخرنا إلى يومٍ لا بُدَّ أن يأتي؟!
ومن يستطيع أن يضمَنَ أن تمتَدَّ حياتُه أو أن يطول عُمُرُه حتّى يجيئهُ اليوم الذي يُنفِقُ فيه ما ادّخَرَ على جسدِه وعلى صِحَّتِه؟! هو لا يستطيع أن يضمنَ هذا، ربّما فاجأه الموت، وربّما أخذهُ بَغتَةً ولكنّه لا بُدَّ أن يأتي ذلك اليوم.
فهل ادّخَرَ إلى جنب المال الذي يُريد أن يُنفقه أو يُسلّمه إلى طبيبٍ يُداوي جسدهُ؟!
هل وضعَ إلى جانبه قليلاً من العَمَل الصّالح يحمِلُهُ معهُ يوم يقوم النّاسُ لرب العالمين، كما يحمِلُ معه المال إلى عِيادَة الطبيب الذي يُريد أن يُداوِيَه؟!
هل حَمَلَ معه في يدِهِ عملاً ينفَعُهُ من الدّاء الذي إذا أصابَه لا يُبَرِّئُهُ منه شيء؟!

  إذا استغفَر إلاّ أن يغفر الله عزّ وجلّ.

  إنَّ الله سبحانه وتعالى أَمَرَ عباده بالإستغفار، وضَمِنَ لهم أن يغفِرَ لهم إذا استغفروا ممّا أسلفوا من الخطأ، فهل حَمَلَ معه من الإستغفار ما يستأهِلُ به أن يُصيب شيئاً من مغفرة الله عز وجل؟!

  كما ندّخر المال ليوم المرض وليوم الفَقْر، فعلينا أن ندّخرَ عملاً صالحًا ليومِ العَرْض على الله عز وجل.

  كما ينظُرُ أحَدُنا في وَلَدِهِ كيف يُسَهِّلُ لهُ ما يستطيعُ من الحياة، وكيف يُعينُهُ ليَبْنِيَ لهُ بيتًا يسكُنُ فيه، فليُعِنْ نفسه ليَبنِيَ له بيتًا في الآخرة قبلَ أن يُعينَ وَلَدَهُ ليَبنِيَ له بيتًا في الدُّنيا.

  لينظُر كما يهتمُّ بغيره أن يهتمَّ بنفسِه فإنَّهُ سيخرُجُ من هذه الدُّنيا من الدّار التي تركها إلى الدّار التي بَنَاها:

لا دار للمرء بعد الموتِ يسكُنُها   إلاّ التي كان قبلَ المَوتِ بانيها
فإن بناها بخيرٍ طابَ مَسكَنُها   وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها

  سيخرُجُ من هذا البيت لينزِلَ بيتًا آخر، فليهتمّ أن يبنِيَ ذلك البيت، ليَهتَمّ بنفسه كاهتمامِهِ بغيره، كاهتمامه بولده أن يبنِيَ له بيتًا أو يُساعِدَهُ ليَبنِيَ بيتًا يحتمي فيه من المَطَر، أفلا يبني بيتًا يحتمي فيه من النّار!؟

  ألا يبني بيتًا يحتمي فيه من عّذابِ الله عز وجل! هذا الذي يدُلُّ على أنّه (بقَدْرِ السّرور يكون التنغيص).

  كما كان أحَدُنا آمنًا فسيرجِعُ خائِفًا، وبقَدْرِ سُروره يكون تنغيصُه، والحياةُ كانت من أجل هذا، يقول في هذا الشيخ عبد اللطيف ابراهيم رحمة الله تعالى ورضوانه عليه:

صَفْوُ الحَياةِ يُشابُ بالأكدار   فاصبِر لحُكْمِ الواحِدِ القهّار
مَن ذا الذي تصفُو لهُ أيّامُهُ   ويعيشُ في أمنٍ من الأخطارِ
طوبى لمن صنعوا الجميلَ وخَلَّفوا   ما يُحْمَدون به من الآثار

  هذه الحياة وما فيها لا ينالُ فيها الفَوْت إلاّ مَن خَلَّفَ عملاً صالحًا.
ما يُحمَدون به من السُّنَنِ الحَسَنَة وليس ما يُحمَدون به من البُيوتِ والقُصور، فإنّهُم سيتركون تلك البُيوت، ويتركون كما دخلوا إلى الدّنيا.

  فلا يأسفَنَّ أحدٌ على ما فاتَهُ من سُكنى، وعلى ما فاته من لَذَّة، إنّما ليَكُن حُزنُهُ على شيءٍ ليس في الدُّنيا ما يكون من أسباب بقائه إلاّ أن يعمَل صالحًا.

  يقول الشيخ سُليمان الأحمد رحمه الله:

أهلَ القُبورِ رُوَيْدَكُم   إن تُحْرَمُوا سُكنى القُصور
فلَيُنْقَلَنَّ جميعُ مَن   سكنَ القُصورَ إلى القُبور

  هنالك يكون البيت الذي إذا بنيته بخيرٍ في الدنيا كان بيتًا تأمَنُ فيه، وإلاّ كان بيتًا فيه فورات السعير وثورات الزفير، إنّا بالله عائذون.

  اللهم صلّ على محمد وآل محمد.

  اللهم اجعلنا ممّن صار أكبَرُ هَمِّهِ في طاعتِكَ وفي رِضاك، وممّن أحزَنَهُ ما أسلَفَ من ذنبٍ، حتى كان ذلك الحُزنُ سببًا له في توبةٍ لا يرجِعُ بعدَها إلى خَطَأ، ولا يُضمِرُ بعدها رُجُوعًا إلى معصية.

  اللهم صلّ على محمد وآل محمد...