كلمة المُرَبّي الجليل الأستاذ محمد علي يونس

أُضيف بتاريخ الأثنين, 03/05/2021 - 17:14

كَلِمَة المُربّي الجَليل

الأستاذ مُحمّد علي يونس

 

نَظْرَةٌ فِي دِيوان الشّاعرِ المَغفور لَهُ الشّيخ عليّ أحمد كتوب

إِعداد الشّاعر اللّغوي الشّيخ تمّام أحمد، وفَّقهُ الله

التّارِيخُ المُثبَتُ عَلى الصّفحةِ الخَارجيّةِ لِديوانِ المَغْفورِ لهُ الشّيخ عليّ أحمد كَتّوب، يَدُلُّ عَلى أَنَّ صَاحِبَهُ، رَحِمَهُ اللهُ، مِنَ المُخَضْرَمِينَ الذّينَ عاشُوا فِي ظِلِّ الاسْتِعْمارِ التُّركِيّ الغَاشِم بِضْعةَ عَشَرَ عَامًا، وَفِي ظِلِّ الاسْتِعْمارِ الفَرنسيّ الغَاشِم بِضْعةً وَعِشْرينَ عَامًا.

وَالاسْتِعْمَارُ شَرٌّ كُلُّهُ: تركِيًّا كَانَ، أم فرنسيًّا ، أم بريطَانيًا، أَم أمريكِيًّا... وَلَكِنَّ بَعْضَ الشَّرِّ أَهْونُ مِنْ بَعْضِ، كَمَا يَقُولُ شَاعِرٌ عَرَبِيٌّ قَدِيم.

وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ الاسْتعمَارَ التّرْكِيّ جَثَمَ عَلَى صَدْرِ أُمَّتِنَا أَرْبَعةَ قُرُونٍ، خَيَّمَ فِيهَا الجَهْلُ وَالفَقْرُ وَالبُؤْسُ.

وَلَولا عِنَايَةٌ مِنَ اللهِ أَدْرَكَتْ هَذِهِ الأُمَّةَ لَمُحِيَتْ هُوِيَّتُهَا القَومِيّةُ بِسَبَبِ سِيَاسَةِ التّتْرِيكِ  التّي  اتَّبَعَهَا الحُكَّامُ الأَتْراكُ فِي بِلادِنَا. وَلَو لَمْ تَكُنِ العَرَبِيَّةُ لُغَةَ السَّمَاءِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ لَبَادَتْ كَمَا بَادَ غَيرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَشَوَاهِدُ التّارِيخِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. 

وَهَكَذَا بَقِيَتِ العَرَبِيَّةُ بِبَقَاءِ القُرْآنِ؛ لأَنَّهَا لُغَةُ القُرْآنِ.

قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [ يوسف 2]

وَلَمْ يَكُنِ الاسْتِعمَارُ الفَرنسيّ أَرْحَمَ بِنَا وَبِلُغَتِنَا مِنْ سَلَفِهِ الاسْتعْمَار التّركيّ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نُسَمِّيه اليَومَ مُحَافَظةَ طَرطوس إِلاَّ بِضْعُ مَدَارِسَ مَحْصُورةٍ فِي مُدُنِ: طرطوس وصافيتا وبانياس والدريكيش.

ذَكَرْتُ مَا تقَدَّمَ لِيَتَبَيَّنَ للقَارِئِ الكَرِيمِ أَنَّ المَغْفُورَ لَهُ الشَّيخ عَليّ أحمد كتّوب الذّي عَاشَ بَينَ عَامَي ( 1905 ـ 1978م ) لَمْ يَلْتَحِقْ بِأَيّةِ مَدْرَسَةٍ حُكُومِيّةٍ أَو غَيرِ حُكُومِيَّةٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِهَا فِي مُحِيطِهِ، فَتَعَلَّمَ كَغَيرِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِيلِهِ فِي كُتَّابِ القَريَةِ أَو مَا يُسَمُّونَهُ آنذاكَ ( بِالخَطيب )، وَكَانَ مِنْهَاجُ هَذَا الكُتَّابِ يَقْتَصِرُ عَلَى دِرَاسَةِ القُرْآنِ، وَشَيءٍ مِنْ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ العَرَبِيّة وَالحِسَابِ وَبَعْضِ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَخُطَبِ نَهْجِ البَلاغَةِ وَقَلِيلٍ مِنْ شِعْرِ الحِكْمَةِ وَالرِّثَاءِ.

بَيدَ أَنَّ العُقُولَ مَوَاهِبُ، وَالآدَابَ مَكَاسِبُ، كَمَا قَالَ مَولانَا أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عَلِيٌّ .

فَمَنْ فَاتَهُ أَنْ يَتَخَرَّجَ فِي المَدَارِسِ الحُكُومِيَّةِ أَو غَيرِهَا لا يَضِيرُهُ أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا، أَو عَالِمًا، أَو شَاعِرًا، إِذَا وَهَبَهُ اللهُ نِعْمَةَ العَقْلِ الذَّكِيِّ وَالذَّوقِ السَّلِيم، وَحَبَّبَ إِلَيهِ العِلْمَ، وَالمُوَاظَبَةَ عَلَى الدَّرْسِ وَالبَحْث وَالمُطَالَعَة، كَصَاحِبِ هَذَا الدِّيوانِ الذّي نَنْظُرُ فِيهِ.

قِيلَ لأَبِي نُواس ـ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ شَاعِرًا مَشْهُورًا ـ: كَيفَ أَصْبَحْتَ شَاعِرًا يَا أَبَا نُواس ؟ 

قَالَ: حَفِظْتُ ثَلاثِينَ دِيوانًا مِنَ الشِّعْرِ، ثُمَّ نَسِيتُهَا، ثُمَّ قُلْتُ الشِّعْرَ بَعْد ذَلِكَ.

وَأَنَا أَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إِنْ صَحَّتْ، أَنَّ أَبَا نُواس حَفِظَ الكَثِيرَ مِنَ الشِّعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَلاثَة دَوَاوِينَ فَضْلاً عَنْ ثَلاثِينَ، حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ نَظْمِ القَلِيلِ.

وَمَا أَشُكُّ فِي أَنَّ الشَّيخَ عَلِيّ أَحمد كَتّوب، لَمْ يَشُذَّ عَنْ طَرِيقَةِ أَبِي نُواس فِي نَظْمِ الشِّعْرِ.

ذَلِكَ أَنَّ آثَارَ حِفْظِهِ  الوَاسِعِ لِكِتَابِ اللهِ، وَللتُّرَاثِ العَرَبِيِّ الأَصِيلِ، جَلِيَّةٌ فِي قَصَائِدِ دِيوَانِهِ الحَافِلَةِ بِحُبِّ أَهْلِ البَيتِ النَّبَوِيِّ .

وَلِمْ لا يَكُونُ الأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَقْرَأُ قَولَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ الآيَة 23]

كَمَا يَقْرَأُ قَولَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ :

(( أَهْلُ بَيتِي كَسَفِينَةِ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَ فِيهَا نَجَا، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهَا غَرِقَ وَهَوى )).

وَالنَّاظِرُ فِي الدِّيوانِ يَرَى تَفَاوُتًا فِي طُولِ القَصَائِدِ: فَبَعْضُهَا جَاءَ فِي بِضْعَةِ أَبيَاتٍ، وَبَعْضُهَا جَاءَ فِي عَشَرَاتِ الأَبيَاتِ، وَبَعْضُهَا جَاءَ فِي مِئَاتِ الأَبيَاتِ، كَقَصِيدَتِهِ (( البَيعة الكُبْرى )) وَقَصَائِدِهِ فِي التَّوسُّلِ بِأَئِمَّةِ أَهْلِ البَيتِ الكرَامِ وَبِسَيِّدِهِم أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِيٍّ .

فَهَنِيئًا لَهُ رُكُوبُهُ سَفِينَةَ نُوحٍ ، وَهَنِيئًا لَهُ اسْتِمْسَاكُهُ بِالعُرْوَةِ ا لوُثْقَى التّي لا انْفِصَامَ لَهَا.

وَهَكَذَا جَاءَتْ تِلْكَ القَصَائِدُ حَافِلَةً بِالمَعَانِي السَّامِيَةِ، وَالعَوَاطِفِ الصَّادِقَةِ، وَالتَّأْثِيرِ القَوِيِّ، وَلا غَرْوَ فِي ذَلِكَ، فَالكَلامُ إِذَا خَرَجَ مِنَ القَلْبِ وَقَعَ فِي القَلْبِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ اللِّسَانِ لَمْ يَتَجَاوَزِ الآذَانَ.

وَأَمَّا مُعِدُّ الدٍِّيوانِ، وَهُو الشَّاعِرُ اللُّغَوِيُّ الشَّيخ تَمَّام أَحمد، أَبو حَازم، فَقَدْ أَجَادَ وَأَفَادَ، وَأَظْهَرَ فِي هَذَا الإِعْدَادِ ثَقَافَةً مَوسُوعِيَّةً عُرِفَ بِهَا، فَذَكَّرَتْنَا بِمَا فَعَلَهُ ابنُ عَبدِ رَبّه فِي العِقْدِ  الفَرِيدِ ذِي الأَجْزَاء  السَّبعَةِ، وَبِالرّاغِب الأَصْفَهَانِيّ فِي مُحَاضَرَاتِهِ التّي جَاءَتْ فِي خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ كَبِيرَةٍ، فَحَيَّاهُ اللهُ وَبَيَّاهُ، وَلا عَدِمْنَاهُ.

وَأَخِيرًا فَإِنِّي أَشْكُرُ لأَولادِ المَغْفُورِ لَهُ صَاحِب الدِّيوانِ تَفَضُّلَهُم عَلَيَّ بِزِيَارَتِي فِي طرطوس وَإِطْلاعِي عَلَى دِيوانِ وَالِدِهِم، وَهُو تُرَاثٌ رُوحِيٌّ وَفَنِّيٌّ قَيِّمٌ، جَعَلَنِي أَذْكُرُ قَولَ الرّسُولِ الكَرِيمِ

(( إِذَا مَاتَ المَرءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )).

فَلْيَنْعَمْ وَالِدُهُمُ الشَّيخُ الجَلِيلُ بِهَذَا الذِّكْرِ الجَمِيلِ الحَمِيدِ.

وَلْيَهْنَأْ وُلْدُهُ الأَبْرارُ بِهَذَا التُّرَاثِ الذّي يَجْعَلُ صَاحِبَهُ فِي عِلِّيِّينَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [ سورة النّساء 69] وَصَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيمُ.

الفقير إلى الله تعالى
محمّد علي يونس. أبو فراس
 طرطوس في 7\شوّال\1439هـ
الموافق ل 20 \حزيران\2018م