الجُمُعَة 16 تشرين الأوَّل 2015م

أُضيف بتاريخ الأثنين, 26/09/2016 - 07:50
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 16\ تشرين الاول \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: ما يستفاد من هجرة الرسول.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: دخول عام جديد، الواجب فيه أن نتذكر ما مضى في العام الذي انسلخ، لنجتنب أخطاءنا في العام الـمقبل، ونزداد إحسانا في العام الجديد.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
  هجرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) منَ الـمكان الذي لـم يستطِعْ فيه أن يُبَلِّغَ رسالَةَ رَبِّه، ومِنَ الـمكان الذي أوذِيَ فيه مَنْ آمَنَ بهِ واتَّبَعَهُ.

  في كُلِّ عامٍ يجتَمِعُ النَّاس ليتذَكَّروا ذلكَ اليوم فيحتفِلُ الناس بذلك اليوم الذي صارَ بعدَ أعْوامٍ مِن هِجرَتِهِ مَبْدأً للتَّاريخ.

  في هِجرَةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) أشياءُ يجِبُ التَّنَبُّهُ لـما فيها، ويجِبُ استرجاعُها في كُلِّ عام ليَنظُرَ مَن يقرَأُ سيرَةَ الأنبياء والـمصلحين، ما كان في حياتِهِم مِن جِهادٍ وما عانوهُ في سبيلِ تبليغِ الرّسالةِ التي أُمِروا بها.

  في كُلِّ عامٍ نذكُرُ الشَّهرَ الـمحَرَّم الذي كانت فيه هِجرَةُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) فمن وقفَ على ما كانَ مِن تِلكَ الهِجرَة وُقوفَ الـمتَأمِّلِ النّاظِرِ فيها، الـمتَدَبِّرِ ما وَقَعَ فيها، في أسبابِها وفيما ترَتَّبَ عليها من غَير أن تكونَ دِراسَةً لتاريخها دونَ أسبابها ودونَ ما يُستَحَبُّ أن يُؤخَذَ مِنها وأن يُستفادَ مِنها.

  أذِنَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) قبلَ هِجْرَتِهِ لِبَعضِ من أُوذِيَ ولـم يُطِق صبرًا أن يُهاجِرَ إلى الحَبَشَة، وكانت القِصَّةُ معلومَةً عندَ مَن قَرَأَ السِّيرة النَّبَوِيَّةَ. وبقيَ الأمرُ على هذه الحال حتى اشتَدَّ فلـم يجِد النَّبِيُّ ولـم يَجِد مَن مَعَهُ مَخرجًا ممّا هُم فيه إلّا أن يخرُجوا مِن مَكَّةَ مُهاجِرين.

  أَوَّلُ شيءٍ يُستفادُ من هذه الهِجرة أنَّ الإنسانَ إذا لـم يستطِع في مكانٍ ما أن يوصِلَ الأمرَ الذي يُريدُ إيصالَهُ فإنَّ أوَّلَ سبيلٍ يسلِكُهُ هو أن يخرُجَ مِنَ الـمكانِ الذي هُوَ فيه، ولو استَتَمَّ كما يقولُ أحدُ الشُّعراء:

ولو استَتَمَّ بمَكَّةٍ لـمحَمَّدٍ ما رابَ   لـم يَنْصِبْ بِيَثْرِبَ مِنْبَرَا

  الأمرُ الثاني أنَّ الذين بايعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) وعُرِفوا باسمِ الأنصار، ومَن هاجرَ معهُ ومن هاجرَ قبلَهُ عُرِفوا باسم الـمُهاجرين، فأوَّلُ عملٍ فعلهُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) مِمَّا يتجاوزُ حُدودَ الزَّمانِ وحُدُودَ الـمكان غَيرَ بِناءِ الـمسجِد، وغَيْرَ نُزولِهِ في الـمكان الذي تُرِكَ حتَّى مَن اجتَمَعَ مِن أجلِ أن يُكرِمَهُ أو مِن أجلِ أن يَدْعُوَهُ للنزول في بيتِهِ، قال: (خَلُّوا زِمامَ النَّاقَةِ فإِنَّها مأمورَةٌ).

  ما هو العمل الذي لـم ينقطِع ممّا يجبُ تجديدُهُ في كُلِّ عام، هي (الـمؤاخاة) التي كانت بين الـمهاجرين والأنصار، لـما آخَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) بين الـمهاجرين والأنصار، آخى بينَهُم على الحُبِّ، وآخى بينَهُم على النُّصرَةِ، وآخى بينهُم على التَّعاوُن، وآخى بينهُم أنَّ مَن يملِكُ الكثير يُعطي مَن لا يملِكُ شيئًا، وجعَلَ الـمشاركَةَ فيما يملِكون في بيتِهِم في أعمالِهِم في أموالِهِم ومَن اختار أن يعملَ عِنْدَ غَيرِهِ عَمِل.

  ما الـمؤاخاةً التي فعلها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) بعدَ هِجْرَتِهِ إلاّ دليلٌ على أنَّ الإسلام أوَّلُ شيءٍ فيه هو الـمؤاخاة، وهو التّعاوُن، وهو أنَّ الغَنِيَّ يَنصُرُ الفقير، وأنَّ القويَّ ينصُرُ الضَّعيف، وأنَّ مَن يملِكُ مِمَّن يزيدُ على حاجتِهِ ينبغي له أن يُعطِيَ مَن يَعلـم حاجَتَهُ حتّى وَصَلَ التعظيمُ في هذا أن جاء مِمَّا رُوِيَ عن أمير الـمؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام) : (لا يُكَلِّفَنَّ أَحَدُكُم أَخَاهُ الطَّلَبَ إذا عَرِفَ حاجَتَه).

  الهِجرَةُ في مَعانيها التي لو كانت استرجاعًا لحَدَثٍ مَضَى دون أن يكون لذلكَ الحَدَثِ تَصَوُّرٌ في هذا الزَّمَن لكانَتْ يومًا يمُرُّ كغيرِهِ مِنَّ الأيَّام، وتاريخًا ينتهي ذِكْرُهُ مَع انتِهاءِ الحَدَثِ الذي وَقَعَ فيه، غيرَ أنَّ الـمؤاخاة التي كانت بذلك الزَّمَن، ووَضْعَ معانٍ للهجرة، كان من أوائل تلك الـمعاني أنَّ الـمهاجر من هَجَرَ السّيِّئات.

  الذي يُريد أن ينظر في هذا اليوم نَظَرَ الـمتَأمِّلِ الـمستَبْصِرِ الـمتَأنِّي، فليعلـم أنَّهُ إذا أرادَ أن يتشبَّهَ -كما تقتضي الحِكمَة- برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) فليَكُم ممَّن هَجَرَ السّيِّئات، فـ(إنَّ الـمهاجرَ مَن هَجَرَ السيِّئاتِ وتَرَكَ ما حَرَّمَ الله)، على ما جاء من حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم)، لـما هَجَرَ النَّاس هَجَروا إلى الـمدينة، هجروا إلى الـمؤاخاة، هجروا مِنَ الظُّلـم إلى الإنصاف، وهجروا مِنَ الإستبداد إلى الـمؤاخاة، وهجروا مِمَّا كان يُؤلـمهُم ويمنَعُهُم أن يقولوا الكلامَ الذي يَرَوْنَهُ حقًا إلى الـمكان الذي رَأَوْ فيه أنهُم يستطيعون أن يعيشوا كما يُحِبُّون.

  كيف أصبَحَت الحال بعد هِجرَةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم)، بالدليل على أنَّ ما فَعَلَهُ مِنَ الهِجْرَة الذي إذا أرَدْتَ أن تسترجِعَهُ لو كانَ مِن باب التشبُّهِ بهِجْرَةِ السيِّئات.

  كيف أصبحَ الحال بعدَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) مِنَ الـمؤاخاة ومن التَّعاوُن!؟

  أصبَحَ الناس يقتُلُ بعضُهُم بَعضًا، ويَذبَحُ بعضُهُم بعضًا، ويأكُلُ بعضُهُم بعضًا، والغَنِيُّ يَقوَى على الفقير، والفقيرُ يبحَثَ عن شيءٍ يستطيعُ أن يَقدِرَ عليه، فسُنَّةُ رسول الله في الـمؤاخاةِ وفي التَّعاوُن أصبحَت مهجورةً لا مَحَلَّ لها عند أكثر النَّاس.

  أن نحتفِلَ بهِجْرَةِ رسول الله ولسنا نتصوَّرُ مِن تلكَ الهِجرَة ومِن مَعانيها شيئًا فنحنُ إنَّما نقرأُ حَدَثًا وَقَعَ في زَمَنٍ مَضى، وما كانت الهِجرة إلاّ لتكونَ في كُلِّ زمانٍ فيها مِنَ الفوائدِ ما يستنبِطُهُ الإنسان ليَعمَلَ به.

  مَن رَجَعَ عن تِلكَ الـمعاني فإنَّهُ رَجَعَ إلى ما كانَ عليه قبلَ الإسلام، وإن بقِيَ ينْطِقُ بما جاءَ في الإسلامِ فإنّما هوَ مُستَمسِكٌ فيه باسمِهِ، على ما َوَرَد مِن كلام أمير الـمؤمنين عليّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السلام) : (واعلـموا أنَّكُم أصبَحتُم بَعْدَ الهِجرَةِ أعرابًا، وبَعْدَ الـموَالاةِ أحزابًا، ما تتعَلَّقونَ مِنَ الإسلامِ إلّا باسمِهِ، ولا تَعْرِفونَ مِنَ الإيمانِ إلّا رَسْمَهُ).

  ما تتعَلَّقونَ مِنَ الإسلامِ الذي هو أن يسلـم النَّاسُ مِنك، وما تعلـمون من الإيمان الذي هُوَ أن يكونَ الإنسانُ أمينًا، لا نعرِفُ مِنَ الإسلامِ إلّا اسمَهُ، ولا مِنَ الإيمان إلّا رَسْمَهُ! فهل هذه هِجرَةٌ للسيِّئات، وإقبالٌ على الطَّاعات، وتَرْكٌ للـمحَارِمِ التي أَمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى أن تُتْرَك.

  هِجرةُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) إن لـم تكُن دَرْسًا يُستفادُ في كُلِّ عام، وإن لـم تكُن عِبْرَةً تُؤخَذُ في كُلِّ عام، وإن لـم تكُن فائِدَةً تُستَنبَطُ في كُلِّ عام فليست غيرَ استرجاعٍ لحَدَثٍ مَضى لا ينفَعُكَ في هذا الزمّانِ شيئًا، ولا يدُلُّكَ على شيء تستطيع أن تنتفِعَ به فيما مَضَى في زمنكَ الحاضِرِ الذي لَـمَّا يَمضِي.

  الـمهاجِرُ في تعريفِهِ الذي يَصْلُحُ لكُلِّ زَمانٍ، هُوَ مَن هَجَرَ السَّيِّئات، وأَنَّهُ لا يُطلَقُ على أحدٍ اسمُ الـمهاجِر حتَّى يَعرِفَ الحُجَّةَ في الأرض، وما هي الحُجَّةُ في الأرض التي يجبُ أن تعرفها وأن تعمَلَ بها؟!
هيَ ما أجاب عنه الأئمَّة غَيْرَ مَرَّة، وبذلكَ أنَّ حُجَّةَ الله سبحانه وتعالى على عِبادِهِ في كُلِّ زمانٍ هي العَقل. هيَ ما أتاهُم مِنَ العُقول، وما دَلَّهُم عليه من الخير، وما نَهاهُم عنهُ مِنَ الشَّر، فبالعَقلِ يُعرَف.

  ما الحُجَّةُ على الناس أو على الخَلْقِ اليَوم، على ما جاءَ من سؤالِ ابنِ السِّكِّيت، ما الحُجَّةُ على الخَلْقِ اليوم؟ قال: العَقل.

  العقلُ هو الذي بهِ يحتَجُّ اللهُ سبحانه وتعالى على عِبادِه، وهو ما تعرِفُ به ما أُمِرْتَ بهِ وما نُهِيتَ عنه، فمتى عمِلتَ بذلك فأنتَ مُهاجِرٌ في كُلِّ يوم من السَّيِّئاتِ إلى الحَسنات، وأنتَ مُهاجِرٌ في كُلِّ يومٍ من الظُّلـم إلى العَدلِ وإلى الإنصافِ، وأعظَمُ مِن ذلك أنَّكَ مُهاجِرٌ في كُلِّ يوم إلى إنسانيَّتِكَ التي يجبُ أن تكون عليها.

  نسألُ الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم مِمَن هَجَرَ السَّيِّئات، وأَقْبَلَ عَلى الطَّاعات، ومِمَّن كُلـما وَرَدَ عليه أمرٌ ألهَمَهُ الله سبحانه وتعالى خَيرَ الأمْرَيْن.

  اللهم صلّ على محمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد...

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  ... أمّا بعدُ فالسلامُ عليكُم ورحمة الله وبركاتُه.

  مِمَّا يتَّصِلُ بهجرة رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم) الذي مَكَرَ بهِ مَن كان حولَهُ ليُريدَ تقييدَهُ أو قَتْلَهُ أو إخراجَهُ، مِن أجلِ أن يُصبِحَ ما يدعو إليه بعيدًا عن أسماعِ النَّاس وعَن أعيُنِهِم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الـماكِرِينَ (30)} الأنفال.

  {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ..} ليَمنَعُوكَ مِن إتمامِ الرِّسالَة {أَوْ يَقْتُلُوكَ} لِيُطفِئوا نورَ العِلـم ونُورَ الهِدايَةِ في ظلامٍ لـم يكُن الـمرادُ باستعمالِ هذه الكلـمةِ فيه تعبيرًا عن جَهْل، لقد كان القومُ في الجاهليَّةِ مِنَ الفُصَحاءِ ومِنَ البُلَغاءِ ومِنَ الخُطَباء، فكُلُّنا يعلـم عظَمَةَ ذلكَ الأدَبِ الذي عُرِفَ بالجاهِلِيّ، وما كان من الـمعَلَّقات، وهوَ مِن أعظَمِ ما بُنِيَ عليه الأدَبُ عندَ العَرَب، ولكنَّ تلكَ الجاهِليَّة لـم تكُن جاهليَّةَ غباوةٍ، إنَّما كانَت جاهِلِيَّةَ ظُلـمٍ، وجاهليَّة استعبادٍ، وجاهليَّةَ بَطشٍ، لذلك سُمِّيَت بالجاهِلِيَّة.

  ولـم تكُن هذه الجاهليَّةُ على ما يُفهَمُ مِن مَعنى الجَهل، فقد كان فيها على ما ذكرنا الشعراء وكان فيها الأدباء وكان فيها الفُصَحاءُ والبُلغاء، فلولا ذلكَ ما أُنزِلَ القُرآنُ بلسانٍ عربيٍّ عالٍ ومَتينٍ وبَليغٍ، لو أنَّ القوم لـم يكونوا من أهل الفصاحةِ والبلاغَة لـما كان الله سبحانه وتعالى خاطبهُم بقُرآنٍ وتَحَدَّاهُم على أن يأتوا بسورةٍ مِن مِثلِ سُوَرِهِ. لو كانوا عاجزين عنِ الكلام وعن البلاغة وعن الفصاحَة ما كُلِّفوا شيئًا من ذلك.

  الجاهليَّةُ التي أرادَت على ما بيَّنَ اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الـماكِرِينَ} لتقييد الرِّسالةِ أو لإطفائها أو لإخراجها من هذا الـمكان إلى مكانٍ آخَر.

  إذا نظَرَ ناظرٌ في الـمسلـمينَ اليوم فماذا يجِدُ مِن سُنَّةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم)!؟
ماذا يجدُ من أخلاقِهِ؟! وماذا يجدُ من آدابهِ؟! وماذا يجِدُ مِن كَرَمِهِ؟!

  إنَّهُ في عام الفتح قال له من آذاه مِن قُريش لـما سألَهُم (ما ترَوْنَ أنِّي فاعِلٌ بكُم؟ قالوا أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، قال اذهبوا فأنتُمُ الطُّلقاء).

  مَن مِنَّا اليومُ يعفو عَمَّن آذاه، لو كان مِعشار الأذى الذي أصابَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلـم)!؟.

  مَن مِنَّا اليوم يعفو عَمَّن ظَلـمه؟! ونحنُ عُرِفنا للناس جميعًا أنَّنا نُحِبُّ أهلَ بيتِ رسول الله ولكن هل صَدَقَ أكثرُنا في ادِّعائه هذا الحُبّ؟!

  يقول الإمام الصّادِق (عليه السلام): (مُروءتُنا أهلَ البيت أن نعْفُوَ عَمَّن ظَلـمنا، وأن نصِلَ مَن قَطَعَنا، وأن نُعطِيَ مَن حَرَمَنا)، فما لنا اليوم لا نعفو عَمَّن ظَلـمنا! ولا نَصِلُ مَن قَطَعَنا! ولا نُعطِ مَن حَرَمَنَا، بل إنَّ مَن لهُ علينا الحَق نُريدُ أن نَجِدَ سبيلاً للخروجِ من وُجُوبِ حَقِّهِ، ومِن وُجُوبِ إكرامِهِ علينا.

  فسُنَّةُ رسول الله وقد أصبَحَتِ اليومَ مهجورةً، وَما كانَ بعدَهُ من أهلِ بيتِ رسول الله وقد أصبَحَ اليوم مهجورًا؟! يُستحبُّ ويَنبَغي أن ينظُرَ الـمرء في مِثلِ هذا اليوم إذا كان يحتفِلُ بهِجرَةِ رسول الله لأنَّهُ قَد مَضى عامٌ وأتى عامٌ جديد ليتصوَّر قبل احتِفالِهِ أنَّهُ فارقَ مِن عُمُرِهِ عامًا ودَخَلَ في عامٍ جديد، والحياة على ما صَوَّرَها أمير الـمؤمنين عليُّ بنِ أبي طالب (عليه السلام): (فلا ينالُ العَبْدُ نِعْمَةً إلاّ بِفِراقِ أُخرى، ولا يستقبِلُ يومًا مِن عُمُرِهِ إلّا باستقبال آخَرَ مِن أَجَلِهِ) .

  فهذا العام الذي مَضى وجاء العام الجديد، يجبُ أن ننظُرَ قبلَ أن نسترجِعَ ما كان فيه ماذا فعلنا في عامِنا الذي مَضى، وماذا سنسألُ اللهَ سُبحانه وتعالى أن يُيَسِّرَ لنا فِعلَهُ في عامِنا الـمقبِل وماذا ننوي فـ(إنَّ الأعمال ثِمارُ النِّيَّات) على ما جاء مِن كلام أمير الـمؤمنين عليّ بنِ أبي طالب (عليه السلام).

  كُلُّنا يعلـم أنَّ العاقِلَ وأنَ الكَيِّسَ مَن حاسَبَ نفسَهُ قبلَ أن يُحاسَب، ولكن أينَ الذي يُحاسِبُ نفسهُ قبلَ أن يُحاسَب؟!

  وأينَ الذي يتذكَّرُ ما أخطأ فيه وما أصاب ليزدادَ مِنَ الصَّواب وليجتنِبَ الخطأ في عامِهِ الـمقبِلِ عليه.

  يقول العلّامة الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه:

هذه مُفَكِّرَةُ العامِ الجديدِ بِما   فَعَلْتُ في عامِيَ الـماضِي مُذَكِّرَتي
جعلتُ للهِ رَبِّي كُلَ ما صَدَرَت   حُبَّ الأئِمَّةِ في أُولى مُفَكِّرَتي

  فمن نَظَرَ اليوم في هذا العامِ الجَديد ليملأ الـمفَكِّرَةَ التي يُحضِرُها بشيءٍ يتقرَّبُ بهِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، إننا ملأنا الـمفَكِّرَة بالأعمال التي تجِبُ علينا في هذه الدُّنيا، ماذا سنفعلُ غدًا، ومِن أينَ سنشتري، وماذا سنبيع، وأينَ سنبني، وماذا سنفعل، وإلى أينَ سنذهَب، فهل وَضَعَ أَحَدُنا قلـمهُ ليَنظُرَ ماذا فَعَلَ في عامِهِ الـماضي، وفي أيِّ شيءٍ قَصَّرَ في طاعَةِ رَبِّهِ قبلَ أن يُقَصِّرَ في جَنْيِ مالِهِ. لينظُرَ ماذا سيفعَلُ في عامِهِ الـمقبِل، ماذا سيفعَلُ في عامِهِ الذي سيأتي عليه وهو لا يدري ما اللهُ سبحانه وتعالى صانعٌ فيه، إن كان يخرُجُ مِن عامِهِ سالـمًا أم تأتِيَهُ الـمنِيَّةُ قبلَ أن يخرُجَ مِن عامِهِ. رُبَّما كان هذا العام آخِرَ عامٍ لنا في هذه الدُّنيا، فلننظُر كيف سنخرُجُ من هذه الدُّنيا؟!

  أنخرُجُ بطاعةِ الله، أم نخرُجُ بمعصِيَتِهِ، هذا عامٌ جديد وما كان التّاريخ إلّا ليتذَكَّرَ الإنسان إذا نَظَرَ فيه أو إذا أقبَلَ عليه ليُذَكِّرَهُ أنَّهُ قَد وَدَّعَ مِن عُمُرِهِ يومًا، وأنَّهُ كما مضى عامٌ ودخَلَ عامٌ جديد، فإنَّهُ كذلك سيمضي من هذه الدُّنيا وسيأتي غيرُهُ إليها، ولكنَّهُ إن أحسَنَ في هذه الدُّنيا خَرَجَ وهُوَ ضاحِكٌ مسرور، وإن أساءَ فيها خَرَجَ وهُوَ يبكي وهُوَ يتحَسَّرُ، ولكن يتحسَّرُ في زمنٍ لا ينتِفِعُ فيه بحَسَراتِه.

وَلَدَتْكَ أُمُّكَ يابنَ آدَمَ باكِيًا   والنَّاسُ حَوْلَكَ يضحكونَ سُرورا
فاحرِص لنفسِكَ أن تكونَ إذا   بَكَوْ في يومِ مَوتِكَ ضاحِكًا مسرورا

  هذا العام الذي مَضى وهذا العام الذي أتى هو يومٌ مَضى مِن أعمارِنا، وهذا الـمقبِلُ من آجالِنا التي بَقِيَت، فلنسألِ اللهَ سبحانه وتعالى أن يجعلنا في عامِنا الـمقبِل ممَّن نَوَى خيرًا، ووَجَدَ خيرًا، وسَلَكَ إلى الخَير، وَهُيِّئَ لهُ الخَير، ويُسِّرَ لهُ الخير، وأن تكونَ أخطاؤنا وسيِّئاتُنا فيما مضَى بعَفوِ اللهِ سبحانه وتعالى مغفورةً، فيها لنا مِنَ العِبْرَة وفيها لنا مِنَ الـموعِظَة ما نجتَنِبُ به في عامِنا الجديد ما نُغضِبُ به ربَّنا.

  اللهم صلّ على مُحمَّدٍ وآل محمد...