الاعتبار بما كان في كربلاء ونسيان الموت - الجُمُعَة 23 ت1 2015م.

أُضيف بتاريخ الجمعة, 07/10/2016 - 04:13
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 23 \ تشرين الاول \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: الاعتبار بما كان في كربلاء.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: نسيان الـموت.


الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

...أمّا بعدُ، فالسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

في مُحَرَّمِ هذا الشَّهر يومٌ يتذكَّرُ به النّاس ما كان من أمرِ الإمامِ الحُسين واستشهادِهِ، وكُلٌّ حينَ يقرأُ ما كانَ في ذلك الزَّمَن ما حَفِظَهُ التَّاريخُ مِنَ الوَقائع يكونُ بين أمرين، إمّا أن يقرأَ ما وَقَعَ ليَنظُرَ فيه ثُمَّ ليَترُكَهُ بعدَ إكْمَالِ قِراءَتِه، وإمَّا لِيَستَنْبِطَ منهُ عِبْرَةً أو ليَقِفَ فيه على فائدَة.

شهادةُ الإمام الحُسين   إذا رَجَعْتَ لتنظُرَ ما قالَ فيها الـمؤَرِّخون ومَا كتبوا عنه مِن خُروجِهِ إلى وُصولِه إلى كربَلاء وإلى مَن بايَعَهُ على القِتال، وإلى مَن بَقِيَ مَعَه، فإنَّهُ لا يَعْدُو أن يكون قِراءَةَ تاريخٍ إن لَم نقِف منهُ على فائدَةٍ في زماننا هذا، أو إن لم نحمِل منه عِبْرَةً في يومنا هذا.

ما كان قول الإمام الحُسين حينَ وَصَلَ إلى كَرْبَلاء، قال   وهو يرى النّاس وينظُرُ إلى مَن كانَ حَوْلَه: إنَّما النَّاسُ عبيدُ الدُّنيا، والدِّينُ لَعَقٌ على ألسِنَتِهِم، يَحُوطونَهُ ما دَرَّت معايِشُهُم، فإذا مُحِّصُّوا قَلَّ الدَّيَّانون.
الكلمةُ التي قالها الحُسين عليه السلام في كَرْبَلاء (فإذا مُحِّصُّوا قَلَّ الدَّيَّانون)!.

كان خُرُوجُهُ عندَ مَن يُعَظِّمُهُ ويجعَلُهُ مِن أهلِ بيتِ رسول الله   كان من أجلِ الإصلاحِ في أُمَّةِ جَدِّهِ، كان من أجلِ الإصلاح ولم يكُن مِن أجلِ طَلَبِ الـمـلك.

كان خُروجُ الإمام الحُسين   ، مُصلِحًا. إذا تَأَمَّلَ أَحَدُنا في زمانِهِ هذا، وأرادَ أن يسترجِعَ مُتَذَكِّرًا ما كانَ من شهادَةِ الإمامِ الحُسَيْن أَفَيَكْفِيه أَن يقرَأَ، ما وَرَدَ في هذا الأمر في كُتُبِ التَّاريخ والسِّيَرِ والتَّراجِم!؟ وأَن يَحْفَظَ أنَّهُ خَرَجَ في شهرِ كذا، وقُتِلَ في شهرِ كذا، وكانَ معهُ فُلان، والذي قتلَهُ فُلان، والذي احتَزَّ رأسَهُ فُلان، والذي حَمَلَ رأسَهُ فُلان، والذي سَبَى النَّاسَ فُلان... إلى آخِرِ ما يكون، أمرٌ إذا عَلِمْتَهُ في هذا العام فيَنبَغي أن تعرِفَ غيرَهُ في عامِكَ الـمقْبِل.

كُلُّ مَن يقرأُ التَّاريخ يستطيعُ أن يطَّلِعَ على هذا، لكنَّ الذي يجِبُ أن يُتَأَمَّل أنَّ أهلَ الكوفَةِ أَرْسَلوا إلى الإمامِ الحُسَين أنَّ هُنا مِئَةَ ألفِ رَجُل، أرسلوا إليه أنَّ هُناكَ مئةَ ألفِ سَيْف ومِئَةَ ألفِ رَجُل يُبايعُونَهُ، ولـمـَّا وَقَعَ القِتال بَقِيَ مَعَهُ سَبعونَ رجُلًا!!!.

مِن مِئَةِ ألف بقِيَ مَعَهُ سبعونَ رَجُلًا، ولما قُتِلَ مَن قُتِل، وأُصيبَ الإمامَ كان حَوْلَهُ أربَعَةُ رِجال أو ربما تزيدُ قليلًا!.

أُرسِلَ إِليه أنَّ هُنا مِئَةَ ألفِ سَيْف! ونحنُ خلفَكَ لِنُقَاتِل، فلمَّا وَقَعَ القِتالُ لَم يكُن مِنَ مِئَةِ الألف تِلك إلّا عَدَدٌ لا يستطيع أن يُقاتِلَ بِهِ!، لذلك كان اختيارُ الإمامِ الحَسَنِ    الصُّلح، كان اختيارُ الإمامِ الصُّلح ولَمَّا عاتَبَهُ مَن عاتَبَهُ وقالَ له: لقد أذلَلْتَ الـمؤمنين، قال لهُم: (واللهِ ما أنا بِمُذِلِّهِم ولكن أينَ أنتُم؟ لو أنِّي وَجَدتُ ثلاثةً مِنكُم يُقاتِلونَ معي ما صالَحْت).

والفائدةُ مِن هذا أنَ طبيعةَ النَّاس أن يقولوا ولكن أن يفعلوا فشيءٌ صَعب!

يقول أميرُ الـمؤمنين عليُّ بن أبي طالِب   في مِثلِ هذه الحال: (تقولونَ في الـمجالِسِ كَيْتَ وكيت، فإذا جاءَ القِتالُ قُلتُم حيدي حَياد) يعني أمرٌ لا يلزَمُنا.

لو أنَّ أحَدَنا سُئِلَ أَن يُصلِحَ نفسَهُ، لا نُريدُ أن نقولَ له أُخرُج مُحاربًا لتُصلِحَ الأُمَّةَ ولا لِتُصْلِحَ الدِّين، ولكِن أصلِح نَفْسَكَ، فمَن مِنَّا خَرَجَ مِن أهوائِهِ ومِن رَغَباتِهِ ومِن شَهَواتِهِ ليُصلِحَ نَفْسَهُ!!.

لا نقول لهُ كُن كالإمامِ الحُسَين واذهَب لكَي تَفْتَدِيَ هذا الدِّينَ بِدَمِك! ولكِن أصلِحْ نَفْسَكَ قبلَ أن تطلُبَ إصلاحَ غَيْرِك. إن استطَعتَ أن تُصلِحَ نَفْسَكَ -كما خَرَجَ الإمامُ الحُسين من أجلِ طَلَبِ الإصلاح- فعِندَها تَأمَّل واقرأ واستذكر ما كانَ وما وَقَعَ وماحَدَثَ في حياةِ الإمامِ الحُسَين.

القَتْلُ والإصلاح لنفسِكَ قبلَ أن تطلُبَهُ للنّاس فهذا أوَّلُ ما ينبَغي.

إنَّكَ لَتَعْجَبُ مِن رَجُلٍ يُجادِلُ في أنَّهُ مُسلِم، وإذا سألتَهُ الدَّليلَ على إسلامِهِ لم يكُن مَعَهُ مِنَ الأدِلَّةِ شيءٌ يَدُلُّ على صِدْقِهِ، هُوَ مُسلِمٌ وعلامةُ الإسلام أن يَسْلَمَ الناس مِن يَدِكَ ومِن عَينِكَ ومِن لِسانِك فأينَ الإسلام؟!!!؟..

وأُجادِلُ في أنَّني مُسلِمٌ وأنَّ لي مذهبًا، ومَذهَبي عَلَوِيٌّ أَو جَعْفَرِيّ، وأينَ أنا مِن عليٍّ ومِن جَعفَر!!؟

يقولُ أمير الـمؤمنين عليُّ بن أبي طالب   في تصنيفِ النّاس (إنَّهُم رجُلان: إمَّا أخٌ لكَ في الدِّين، وإمَّا نَظيرٌ لكَ في الخَلق) فهَل نحنُ مِمَّن يُعامِلُ النَّاسَ على هذا!!؟

هَل نحنُ مِمَّن يُعامِلُ النَّاسَ على هذا ليَحْزُنَنَا مَن يقولُ لنا: أنتُم لا تُطيعونَ الإمامَ الذي تَدَّعُونَ الإنتسابَ إليه، وهل يَحْزُنُ هذا الأمر أحدًا مِنَّا أن يُقالَ فيه ما هُوَ فيه!!؟

حُبُّ الأئِمَّة -إذا نَظَرتَ فيه- ليسَ قولًا يُلقى على عَواهِنِهِ، واستِجداءُ واستحضارُ ما كانَ مَعَهُم ليس كلمَةً تُقال ثمَّ تذهَبُ مَعَ انتِهاءِ الـمجْلِسِ الذي أنتَ فيه!.

حُبُّ الأئِمَّة يعني أن تكونَ مُقتَدِيًا بهم ما استطعتْ، وحُبُّ الأئِمَّة يعني أن تكونَ صورةً إذا تَحَرَّكَت على أَدَبِ رسولِ الله وعلى أَدَبِ عليِّ بنِ أبي طالب وإلّا فأَنتَ كغَيْرِكَ.

العَمَلُ الصَّالِح هو الذي يَدُلُّ وهُوَ الذي يُبَيِّنُ وهُوَ الذي يُحَدِّد، فإنَّهُ مِن غَيرِ عَمَلٍ فإنَّ ما يُدَّعى تُكَذِّبُهُ شَواهِدُ العَمَل.

في ذِكرى الإمام الحُسين   يحفَظُ النَّاس مِن أينَ خَرَج وأينَ ذَهَب وماذا وَقَعَ مَعَهُ، وماذا رَدَّت زينَبُ في مُجادَلَتِها مَع يزيد، ولكن إذا قُرِئَ هذا ثُمَّ حُفِظَ هذا ثُمَّ تُرِكَ مِن عامٍ إلى عام لا نَقِفُ منهُ على شيء، ولا نستنبِطُ منهُ شيئًا، ولا نُحاوِلُ أن نُقَلِّدَ ولَو كان مِن باب التَّشَبُّه ذلك الإمام بشيء، فماذا يكونُ تَذَكُّرُنا، وأيُّ شيءٍ يكونُ استرجاعُنا ما مضَى.

كُلُّ مَن يقرأُ التّاريخ يستطيعُ أن يُحَدِّثَكَ وأن يذكُرَ لكَ مِنَ التَّفاصيلِ ما لا تعلَم، ولكن العِبْرَة، ولكن الفائِدَة، ولكن الإصلاح الذي خَرَجَ مِن أجلِهِ الإمامُ الحُسين  ، هذا ما يجبُ أن نتأمَّلَهُ، وهذا ما يجِبُ أن ننظُرَ فيه.

مَن نَظَرَ يومَ هاجَرَ رسولُ الله   وَرَقَدَ أميرُ الـمؤمنين   مَكانَهُ، لينظُر مَبْلَغَ التَّضحِيَةِ والفِداء مِن أجلِ إقامَةِ الحَق، وعليها يُقاسُ خُروجُ الإمامِ الحُسين.
لو أنَّ أحَدَنا اليوم سُئِلَ أن يُضَحِّيَ بوقتِهِ، لا أن يُضَحِّيَ بجَسَدِهِ ولا بِمالِهِ، أن يُنفِقَ مِن وقتِهِ قليلًا ليقرَأ، ليس ليُصلِحَ نفسه، ليقرأ، لا نُريدُ أن يخرُجَ لِطَلَبِ الإصلاحِ للأمَّة، ليقرأ.

التضحيةُ إذا كانت من هؤلاء بأموالهم وبأجسادِهِم وبأرواحِهِم بقيتَ أنتَ فماذا عليك، وبماذا تُضَحِّي، أنفِق قليلًا مِن وقتِكَ لتكونَ قِراءَتُكَ بعدَ هذا مُبَصِّرًا لكَ فيما يجِبُ عليكَ وفيما لا يجوزُ لك.

نسألُ اللهَ سُبحانهُ وتعالى أن يجعَلَنا وإيَّاكُم مِمَّن إذا قَرَأ تَبَصَّر، ومِمَّن إذا استَدَلَّ دُلَّ، ومِمَّن إذا استَرْشَدَ أُرْشِدَ إلى طريقٍ مُستقيمٍ وإلى صِراطٍ قَويم....



  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

... أمّا بعدُ، فالسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

إذا نَسِيَ الإنسانُ أمرًا ليسَ مُهِمًّا، رُبَّما لَم يُعاتَب في نِسيانِه، أو رُبَّما لم يُلَم على إهمالِه، لكِّنَّهُ إذا نَسِيَ أَمْرًا عظيمًا يعلَمُ أنَّهُ لا بُدَّ واقِع وأنَّهُ لا بُدَّ آتٍ وأنَّهُ لا بُدَّ كائِن.

إنَّهُ إذا زاركَ صديقُك خَرَجْتَ مِن بيتِكَ إلى أوَّلِ الطَّريق لتُحسِنَ استِقبالَه، وهذا قد يكونُ وقد لا يكون. رُبَّما يزورُكَ هذا الرَّجُل ورُبَّما يَصْعُبُ عليه. إذا كان القادِمُ عليكَ أمرًا لا بُدَّ مِنه، وأنتَ على يقينٍ أنَّهُ لا بُدَّ مِنه، فكيفَ تستقبِلُهُ!!؟ بل كيفَ تنساه وأنتَ ترى مَن سَبَقَ إليه!!؟

يقولُ أميرُ الـمؤمنين عليُّ بن أبي طالب   : (عَجِبْتُ لمن ينسى الـموْتَ وهُوَ يَرَى الـموْتَ).

ويقولُ   : 

(ما رأيتُ إيمانًا مع يقينٍ أشبَهَ بِشَكٍّ مِنه على هذا الإنسان في كُلِّ يومٍ يُوَدِّعُ للقُبُورِ ويُشَيِّع، وإِلى غُرُورِ الدُّنيا يَرْجِع، وعَن الشَّهْوَةِ والذَّنْبِ لا يُقْلِع).

(في كُلِّ يومٍ يُوَدِّعُ للقُبُورِ ويُشَيِّع) ولكِنَّهُ يرجِعُ إلى غُرُورِ الدُّنيا، (فلو لم يكُن لابنِ آدَمَ ذَنْبٌ يتَلَكَّفُهُ، ولا حِسابٌ يَقِفُ عليه إلّا موتٌ يُبَدِّدُ شَمْلَهُ ويُفَرِّقُ جَمْعَهُ ويوتِمُ وَلَدَهُ لَكَانَ يَنْبَغي لهُ أن يُحاذِر ما يكونُ فيه منَ التَّعَبِ والنَّصَب) لو لم يكُن فيه إلّا تشتيتُ الشَّمل وتفريقُ الشَّمل، ولِمَا كُلُّ هذا التَّذكير غيرَ أنَّ الأمرَ واقِع، لأنَّكَ إذا تَذَكَّرت أَمْسَكْتَ عنِ الخَطَأ، ولأنَّكَ إذا تَذَكَّرت كَفَفْتَ عنِ الأذى، وَ لأنَّكَ إذا تَذَكَّرت هذا اليوم لن تَعْتَدِ على أَحَد.

إذا تَذَكَّرت أنَّكَ لا بُدَّ محمولٌ إلى قبرٍ مُظلِمٍ يأكُلُ الدُّود فيه لَحمَه، ويَسرَحُ فيه على وَجهِك، إذا تَذَكَّرتَ هذا أَمْسَكتَ أن تُؤْذِيَ أَحَدًا وَكَفَفت عَمّا تعتدي به على النّاس، فهَل تَصَوَّرَ أَحَدُنا كيفَ صَوَّرَ أميرُ الـمؤمنين علِيُّ بنِ أَبي طالب   تِلْكَ الحال، (فَلَمْ يَزَل الـموت يُبالِغُ في جَسَدِهِ حَتَّى خالَطَ لِسانُهُ سَمْعَهُ، فصَارَ بينَ أهلِهِ لا ينطِقُ بلِسانِهِ، ولا يسمَعُ بسَمعِهِ، يُرَدِّدُ النَّظَرَ في وُجُوهِهِم يرى حركاتِ أعضائهِم ولا يَسمَعُ رَجْعَ كَلامِهِم).

فليَتَصَوَّر أَحَدُنا هذه الحال وَهُوَ مُلقًى في فِراشِهِ يرى حركاتِ النَّاس ولكنَّهُ لا يسمعُ رَجْعَ كلامِهِم (ثُمَّ ازدادَ الـموتُ الْتِياطًا به فَقُبِضَ على بَصَرِهِ) ازداد الـموت فقُبِضَ بَصَرُهُ كما قُبِضَ سَمعُهُ (فخَرَجَتِ الرُّوحُ مِن جِسِدِهِ فصارَ بينَ أهلِهِ جيفَةً).

ما أَشَدَّها علينا ونحنُ نحمِلُ الطِّيبَ في مَلابِسِنا مِن أجلِ إذا لاقَينا أَحَدًا أن تكونَ رائِحَتُنا زكِيَّةً، وما أشَدَّها عليك إذا أصابَكَ شيء أنَّكَ تذهَبُ مُسرِعًا لتغتسِل، وما أشَدَّها عليك أنَّكَ هُنا لا تستطيع أن تَدفَعَ عَن نفسِكَ شيئًا مِمَّا أصابَك، ما أشَدَّها عليك، فتَأَمَّل هذه الحال.

يقول أمير الـمؤمنين   : (إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الـموتُ وَأَنْتَ آبِقٌ عَن رَبِّكَ في طَلَبِ الدُّنْيَا).

ليتذكَّر كُلُّ واحِدٍ مِنَّا يَومَ يجلِسُ ليَغتابَ النَّاس، أنَّهُ قَد ينزِلُ به الـموت فعلى أيِّ حالٍ سَيَقِفُ بين يَدَيّ الله!!؟ وليَتَذَكَّر أنَّهُ يومَ يجلِسُ لِيَعيبَ النّاس قد ينزِلُ بهِ الـموْت، وقد لا يُغادِرُ أحَدُنا مَجْلِسَهُ هذا ليَرْجِعَ إلى بَيْتِهِ ورُبَّما كانَت بُيوتُنا قُبُورَنا.

فليتأمَّل كُلٌّ مِنَّا ولا يَكُن لهُ في شَبابِهِ ومِن قُوَّتِهِ ومِن جَاهِهِ ومِن مالِهِ ما يُجَرِّئُهُ ولا ما يضُرُّه، فإنَّ مَصيرَ شبابِهِ إلى الهَرَب، وإنَّ مَصيرَ قُوَّتِهِ إلى الضَّعْف، وإنَّ مَصيرَ بَقائِهِ إلى الفَناء، يقولُ أمير الـمؤمنين   في مِثلِ هذه الحال:

(فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ مَضَاضَةِ الشَّبابِ إلّا حَوَانِيَ الهَرَم، وَأَهْلُ غَضَاضَةِ الصِّحَّةِ إلّا نَوَازِلَ السَّقَم، وَأَهْلُ مُدَّةِ البَقاءِ إلّا آوِنَةَ الفَنَاء).

يقولُ في مِثلِ هذا العَلّامَةُ الشيخ سُلَيمان الأحمد رحمةُ الله تعالى ورِضْوَانُهُ عليه:

لَمْ أَقُل لِلشَّبابِ في دَعَةِ اللهِ***ولا حِفْظِهِ غَداةَ تَوَلَّى
زائرٌ زارَنا أَقَامَ قَليلًا سَوَّدَ***الصُّحْفَ بالذُّنوبِ وَوَلّى

أَفَلا ينتَبِهُ أَحَدُنا وَهُوَ في كُلِّ يوم يرى مِن عُمُرِهِ نَقْصًا، أَفَلا يقِفُ في يومٍ يتأَمَّلُ فيه ويَحْذَرُ فيه ظُلمَةً في مَسكَنٍ لا يَجِدُ مِنْهُ مَخْرَجًا.

إنَّ أَحَدَنا إذا نام قد ينهَضُ مِن نومِهِ مُكرَهًا وعلى رَغْمِ أنفِهِ إذا آلَـمَتْهُ بَعوضَة قد تُقعِدُهُ مِن فِراشِه، فكيف إذا كان لا يستطيع أن ينهَضَ مِنَ الـموضِعِ الذي هوَ فيه!؟ هُنالِكَ يكونُ البُكاء، وهُنالِكَ يكونُ التَّحَسُّر، وهُنالكَ يقول (رَبِّي أَرْجِعُون) هُنالِكَ تتمَنَّى أن تَعود ولكنَّكَ لا تستطيعُ أن تعود.

فاغتَنِم حالَ قُوَّتِكَ اليَوم، واغتَنِم حالَ طاقتِكَ وقُدْرَتِكَ اليوم قبلَ أن تصيرَ في يومٍ لا تستطيعُ فيه شيئًا، أو قبلَ أن تصير في دارٍ وَصَفَها أميرُ الـمؤمنين   بأنَّكَ تطلُبُ فيها النَّوم فلا تَجِدُهُ.

يقولُ في هذا العَلّامَةُ الشيخ سُلَيمان الأحمد رحمةُ الله تعالى ورِضْوَانُهُ عليه:

قد كانَ عصرُ شبابي الغَضّ مُشتعِلاً***بليلِه لاقتباس العِلم نِبراسي
فما تَنَبَّهتُ مِن نَومي بِهِ كَسَلًا***حتى تَبَلَّجَ شَعرُ الشَّيبِ في راسي

فليَتَنَبَّه مَن لم يبلُغ بَعد هذا لعلَّهُ يستطيعُ أن يستدرِكَ مِمَّا فاتَهُ شيئًا.

اللهم إنَّا إليك تائبون، وإليكَ راجعون، فتُب علينا.

اللهم إنّا نشكو إليكَ كَثْرَةَ أخطائِنا، ونَشكو إليكَ تفاقُمَ ذُنُوبِنا، فاغفِر لنا إنَّكَ أنتَ الغَفورُ الرَّحيم.

اللهم إنّا نشكو إليك ضيقَ صُدورِنا فاشرحها بقُرآنِكَ الكريم، إنَّكَ أنتَ العَلِيُّ العظيم.اللهم إنّا نشكو إليك ما عَلِمت من داءٍ نَزَلَ بِنا، ومِن بلاءٍ أصابنا، ونحنُ لا نجِدُ دافِعًا إلّاك، ولا نجِدُ مَلجأً إلّا إليك، اللهم إنَّهُ لا مُجيرَ إلّا أنتَ فأَجِرْنا، ولا مُغيثَ إلّا أنتَ فأغِثنا.

اللهُمَّ إنَّا نَدعوك، وإنَّا نَبتَهِلُ إليك، وإنَّا نسألُكَ يا ربَّ العالـمين ما سَأَلَكَ رسُولُكَ الكريم وما سألك أهل بيتِهِ الطاهرين، اللهُمَّ فاجعَلنا مِمَّن تَقَبَّلتَ سُؤالَهُم، ومِمَّن أَجَبْتَ دُعاءَهُم، ومِمَّن رَحِمْتَهُم، ومِمَّن غَفَرْتَ لهُم بِما أَكرَمْتَ محمدًا وبِما أكرَمتَ أهلَ بيتِهِ الطَّاهرين.

فيا مَن ليس لي مِنهُ مُجيرُ***بعَفوِكَ مِن عَذابِكَ أستجيرُ
أنا العَبْدُ الـمقِرُّ بِكُلِّ ذَنبٍ***وَأنتَ السَّيِّدُ الصَمَدُ الغَفورُ
فإن عَذَّبتَني فبِسوءِ فِعلي***وإن تَغْفِر فأَنتَ بهِ جَديرُ
أَفِرُّ إِليكَ مِنْكَ وأينَ إلّا***إليكَ يَفِرُّ مِنكَ الـمستَجيرُ

اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد...