الجُمُعَة 2 تشرين الاول 2015م.

أُضيف بتاريخ الجمعة, 14/10/2016 - 03:09
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 2\تشرين الاول\2015م:
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: الغدير، والولاية ليست منازعة في أمر الخلافة، و إنما اقتداء بالإمام.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: النفس، بيعها وعتقها.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
  ...أمّا بعدُ، فالسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

  في كُتُبُ السّيَرِ والتّاريخ أنّهُ يومَ رَجَعَ رسول الله (ص وآله) بما عُرِفَ بِحَجَّةِ الوداع، بآخِرِ سنةٍ قبلَ أن يقبِضَهُ الله عز وجل إليه، كان هُناكَ ما عُرِفَ بواقِعَةِ الغَدير، يومَ أوقَفَ الرَّكْبَ وأَخَذَ بيَدِ أمير المؤمنين وقال: (اللهم من كُنتُ مَولاه فهذا عليٌّ مولاه) على اختلاف الألفاظ بحسب اختلافِ طُرُقِ الرِّوايَة، (اللهم والِ مَن والاه وعَادِ من عاداه، وانصُر مَن نَصَرَهُ واخْذُل مَن خّذَلّه).

  واختلف النّاسُ منذُ ذلك اليوم في هذه الكلمة، في تفسير هذا الدُّعاء، (والِ مَن والاه) أنَّ الوَلاءَ هُنا على ما ذَهَبَ قومٌ هُوَ الحُبّ والطّاعَة والإجلال، وعلى ما ذهبَ آخرون هو الوِلايَة، يعني أن يكون لهُ منصِبُ الخليفةِ بعدَ رسول الله (ص وآله).

  الجامعُ لهذين الأمرين سواءٌ أكان بالوَلايَةِ التي هيَ الحُبُّ والطَّاعَة، أو بالوِلايَةِ مَصْدَرِ الفِعلِ (وَلِيَ) كأن تقولَ إنَّ الأمير أو الحاكِمَ أو السُّلطان وَلَّى فُلانًا على مدينةٍ أو على قريةٍ.

  فالوِلايَة ُالتي هي من المناصِبِ الدُنيَوِيَّة من أجلِ تنظيمِ شؤونِ النّاس ومن أجلِ أخذِ الحق لمن هو عاجزٌ عنه، ومن أجلِ العَدلِ والإنصاف، لها في كُتُب التاريخ وفيها اختلافٌ وتصادُمٌ كبير، إن كانت هذه الوِلايَةُ على هذا المَعنى.

  بقيَ المَعنى الأوَّل والأصلُ الأوَّلُ للوَلاء الذي هُوَ الحُبُّ والطّاعةُ والنُّصرَةُ والتّعاوُن. مَلأ المؤلفون، وسلخَ المًسلمون أعمارهُم في النِزاع في أمرِ الخِلافة وفي أحقيَّةِ هذا وفي عَدَمِ أحَقِّيَةِ غيرهِ! وبُنِيَ على هذا من الفَتاوى وبُنِيَ عليه من الرّدود، ما سبَّبَ من الأحقاد ما سَبَّب، ومن الكراهيةِ ما سَبَّب.

  ولو نظر ناظرٌ إلى كلام أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام في هذا الأمر لتبيَّنَ له أنّهُ ما نازعَ أحدًا فيه، وأنَّهُ لم يُكَلِّف أحدًا أن يُقاتِلَ من أجلِهِ ولا أن يُحاربَ أحدًا من أجلِهِ، هو يقول: (ولقد عَلِمْتُم أنِّـي أَحَقُّ بها من غيري، ووالله لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين) في هذا حين قَدَّمَ أميرُ المؤمنين عليه السلام مَصلَحَةَ الأُمَّةِ على مَصلَحَتِهِ (لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين)، فيذهبُ البعضُ ممّن يُريدُ أن يُحَرِّكَ عواطِفَ النَّاسِ ومشاعِرَهُم إلى استعمالِ بعضِ الكلماتِ التي لها أثرٌ في نُفوسِ النَّاس، كأن يقول: إنَّ لعَلِيٍّ ولأهلِ بيتِهِ وما لحِقَهُم من الظُلم ما يُسَوِّلُ له أن يتَّخِذَ شعار المَظلومية وأن يغفُوَ تحتها وأن يُؤَلِبَ الناس بهذا الشِعار ليحرّكهُم من أجل استرداد حقٍّ مسلوب!.

  إذا كان صاحِبُ الحَقِّ قد نَزَلَ عنه وتركَهُ (لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين)، ثمَّ إذا كان الجَوْرُ فيها عليه خاصَّةً كما يقول (ولقد عَلِمْتُم أنِّـي أَحَقُّ بها من غيري، ووالله لأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمُورُ المسلمين، ولم يَكُن فيها جَوْرٌ إلّا عَلَيَّ خاصَّةً، التِماسًا لأجر ذلك وفَضْلِهِ، وزُهدًا فيما تنافستُمُوه من زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِه).

  إذا كان الجَوْرُ عليه خاصَّةً فكيف يُصَدَّقُ مَن يقول أنَّ الظُلمَ كان في زمَنِهِ عامّاً!..

  ثمَّ إنَّهُ يقول (ولقد أصبَحَت الأُمَمُ تخافُ ظُلمَ رُعاتِها، وأصبحتُ أخافُ ظُلمَ رَعِيَّتي). فإذا كان القائلُ ممّن يَعُدُّ نفسهُ مِن رَعِيَّتِه فإنَّ الإمام يخافُ ظُلمَهُ، على عكس الحال التي تقتضي أن يكون الناس خائفين من ظُلم الوُلاة، أمّا الإمام فيقول (وأصبحتُ أخافُ ظُلمَ رَعِيَّتي) فإذا كانت الحال على هذا فكيف يُصَدَّقُ مَن يَتَّخِذُ هذا الأمر حُجَّةً وذريعَةً من أجلِ أن يُؤَلِّبَ الناس، ومِن أجلِ أن يوقِعَ بينهُمُ العداوَةَ والبَغضاء في أمرٍ نَزَلَ عنه صاحبُ الحَق، وفي أمرٍ ما كان العُقَلاءُ من العُلماء يتجاوزونه إلى حَدِّ الإسفافِ أو حَدِّ البَذاءَةِ في القَول.

  هذا اليوم يومٌ لهُ ذِكْرُهُ في التَّاريخ، وهو يومٌ قال فيه الشُّعراء وأكثروا، وقال فيه المؤلّفون وأكثروا، وقال فيه كُتَّابُ السِيَرِ وأَكثروا، حتى لو جمعته لدخلَ في مُجلَّدات، ولكن كيف يُنظر إليه اليوم، هل نرجعُ فيه إلى النَّزاعِ وإلى التَّصادُم، في زمنٍ ينتظِرُ فيه العَدُوُّ أن تكون مِثلُ هذه الأمور شاغلًا لنا، وهل يظُنُّ أحدٌ أنَّ وَلايَةَ أميرِ المُؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب عليه السلام تقتضي شيئًا غَيْرَ الإقتداءِ به، وغَيرَ طاعتِه، أن تكون فَعَّالًا مع قومِكَ، تقولُ ثمّ تفعَل، حينئذٍ أنتَ قد تكون مِمَّن والى أمير المؤمنين.

  الوَلايَةُ ليست مُقَيَّدَة بالنِّزاعِ في حَقِّ الخِلافة، ولا بالبَحثِ عنها في زمنٍ مَضى، حتى لم تعُد هذه الكلمة مُستعملةً فيه، منذُ سنة أربعٍ وعشرين وتِسعمِئةٍ وألف، يومَ أُسقِطَتُ الخِلافَةُ ولم يبقَ لها أثَر، لم يعُد هناك هذا اللقب ولم يُستعمل بعد ذلك هذا الاسم، فهل نُنازِعُ في شيءٍ ونحن نعلمُ أنَّهُ لا أثَرَ له اليَوم، ولا مَكانَ له اليوم!.

  الوَلايَةُ في يومِ الغَديرِ وفي غَيرِهِ، بل هيَ لا تحتاجُ إلى قولِ رسول الله (ص وآله).

  الوَلايَةُ إذا أردتَ أن تكونَ مُحِبًّا لرسول الله ولأهلِ بيتِهِ الطاهرين فليَظهَر عليكَ شيءٌ من آثار طاعَتِهِم، من الإقتداء بهم، من محبّتِهِم، فالوَلايَةُ ليست كلمةً نتذرَّعُ بها أو نستعملها من أجل أن نُدخِلَ أنفُسنا في عَدَدِ مَن يُوالي آلَ البَيت.

  إذا لم تكُن الوَلايَةُ ظاهرةَ علينا بطاعَتِهِم، بما وَصَفوه بصفاتِ مَن يُواليهِم، بالحياء، بالطاعة، بالصدق، بأداء الأمانة... هُنالِكَ تكونُ الوَلايَة، هُنالك يكون الوَلاء (ما شيعتُنا إلّا مَنِ اتّقى الله فأطاعَهُ، وما كانوا يُعرفون إلّا بالتّواضُع، وحُسْنِ الخُلُق، وصِدقِ الحَديث، وأداءِ الأمانة..) بمثلِ هذه الصِّفات يكونونَ مِن أهلِ الوَلايَة، أمّا على غير ذلك فهم قائلونَ بغيرِ دليل، ومُدَّعون بغَيرِ بَيِّنَة.

  الوَلايَةُ ليست كلمةً نلقيها متى أحببنا، وليست ذريعةً نتّخِذُها إلى ما نُريد!.

  أينَ نحنُ من زُهدِ أمير المؤمنين!

  وأين نحن من أَدَبِ أميرِ المؤمنين!

  وأينَ نحنُ من عَمَلِ أمير المؤمنين!

  لقد وَصَفَ النَّاس أنّهُم لا يقدرون على ما يقدر هو عليه ولكن (ألا وإنَّكُم لا تقدِرون على ذلك فأعينوني بوَرَعٍ واجتهاد).

  الوَلايةُ بطاعة الله سبحانه وتعالى، إذا كانت شرطَ النَّجاة على ما عَبَّرَ عنه كثيرٌ من العُلماء، وكان منه قول العَلّامَة الشيخ سُليمان أحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه:

شرطُ النَّجاةِ بما أتَت فيه   عن الهادي الرِّواية
صِدْقُ الوَلايَةِ للّذي   فَرَضَ الإلهُ لهُ الوَلايَة

  فكانَ فرضُ الوَلايَةِ طاعةً، وأخلاقًا، وعملًا صالحًا، واقتداءً بأعمالِ مَن تُوالي، ولَم تكُن كلمَةً تضَعُها أينما أحببت، ولم تكُن كلمةً ترفَعُها أينما أحببت، فالوَلِيُّ هوَ المُطيع، فمن أحَبَّ رسول اله (ص وآله) وهو يُطيعُهُ فقد صَدَقَ في وَلائِه، ومن لم يكُن على غير هذا فيُنتَظَرُ منه أن يظهر من فِعلِهِ شيءٌ يدُلُّ على وَلائِه (صِدْقُ الوَلايَةِ للّذي...).

  والصِّدقُ إنّما يُستدَلُّ عليه بالفِعلِ وبالعَمَل، أن تقول فإذا عَمِلْتَ كُنْتَ صادقًا في قولِك، أمَّا أن تقولَ ثمَّ لا يكونُ لكَ عمَلٌ فإنَّ النَّاظِرَ متوقِّفٌ في أن يُشَكِّكَ في قولِكَ، أو في أن يُصَوِّبَهُ، أو في أن يُثبِتَ صِدقَكَ فيه.

  الوَلايَةُ في حقيقتِها أن تكونَ مُطيعًا، سواءٌ بعدَ هذا بحَثْتَ عن أمرِ الخِلافَةِ أم لم تبحث، ولا يُجيزُ لك هذا أن تطعَنَ بغيرِ دليلٍ منطِقِيٍّ أو عِلمِيٍّ أو تاريخيٍّ يُثبِتُهُ العقلُ ويَحكُمُ عليه، فهذا في يومِ الغَدير الذي قيل فيه على ما ذكرنا ممّا قاله الشعراء، ومما قاله المؤلفون.

  هذه هي الوَلايَة، فالوَلايَةُ لا تعدو أن تكون على قِسمَين، على ما ذَكَرَ الإمامُ الصّادِقُ عليه السلام (إمّا وَلايَةُ الله، وإمَّا وَلايَةُ الشيطان) والذي يُخْرِجُ المسلم من وَلايَةِ الله عز وجل، عملٌ قد يستصغِرُهُ وقد يعُدُّهُ بسيطًا أو قليلًا، (فمَن روى عن أخيه رِوايةً يُريدُ بها شَيْنَهُ وهَدْمَ مُرُوءَتِه ليسقُطَ مِن أعيُنِ النَّاس، أخرجهُ اللهُ مِن وَلايَتِهِ إلى وَلايَةِ الشَّيطان ثم لا يقبَلُهُ الشيطان). هذا أوَّلُ شيءٍ يُخرِجُ المَرء مِن وَلايَةِ الله، أي مِن طاعَتِهِ، وحسبُكَ بهذا الدَّليل، وبهذه الرِّوايَة، وبهذا الحَديث دليلًا على معرِفَةِ كيفَ تُوالي أمير المؤمنين وكيفَ تُوالي من كان بَعدَهُ من أهل بيتِ رسول الله (ص وآله).

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن أطاعَ أمْرَهُ، ومِمَّن أكثَرَ ذِكرَهُ، ومِمَّن لم تكُنِ الدنيا شاغلاً له عن عِبادةِ الله، ولم يكُن حُبُّ الدنيا شاغلًا لهُ عن حُبِّ الله، ولم تكُن طاعةُ غيره من المَخلوقين مانعًا له أو صارفًا له عن العمَلِ بطاعة الله.

  اللهم صلِّ على مُحمد وآل محمد...

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  أكثَرُنا يُحِبُّ مِنَ الحياةِ أن يكونَ مِمَّن يملِكُ أشياءَ كثيرَةً ولكنَّ أعظَمَ الأشياءِ التي يستطيعُ أن يَملِكَهَا هي التي يملِكُهَا مِن غَيْرِ أن يَعرِفَ أنَّهُ أصبَحَ قادِرًا على توجيهها في المكان الذي يُريد.

  أعظَمُ الأشياء التي يملِكُها الإنسان هيَ نفسُهُ، إنَّهُ إذا مَلَكَ بيتًا، أو مَلَكَ قَصْرًا، فلا بُدَّ أنَّهُ سيُفارِقُ هذا المُلْك، هو يستطيعُ أن يُصلِحَ مُلكَهُ بزَخرَفَتِهِ، ويستطيعُ أن يُصلِحَهُ بتأنيقِهِ وبتجميلِهِ، ولكن كيفَ يُصلِحُ الشيءَ الذي يَملِكُهُ وهُوَ المِقياسُ الذي إذا كان قادرًا على إصلاحِهِ كانَ قادرًا على إصلاحِ غيرِهِ. إذا كان قادرًا على نصيحَتِهِ كانَ قادرًا على نصيحَةِ غَيرِه.

  في كتاب الله سبحانه وتعالى من الآيات ما ذهبَ القومُ في تفسيرها وفي تأويلها مَذاهِبَ شَتَّى. إِنَّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفُسَهُم واشترى منهم أموالَهُم، والدُّنيا على ما أورَدَ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام (الدُّنيا دارُ مَمَرٍّ لا دارُ مَقَرّ، والنّاس فيها رجُلان: رَجُلٌ باعَ فيها نَفْسَهُ فأوبَقَها، ورَجُلٌ ابتاعَ نَفْسَهُ فَأعتَقَهَا).
  إِمَّا رَجُلٌ باعَ نفسَهُ فأَوْبَقَها، وإمَّا رَجُلٌ ابتاعَ نفسَهُ –أي اشترى نفسَهُ- فأعتَقَها. ولذلك جاء من حديثهِ (إنَّ لأنفُسِكُم أثمانًا فلا تبيعوها إلّا بالجَنَّة) لا تبيعوا أنفُسَكُم من أجلِ الخَسيسِ مِنَ الدُّنيا، ولا تبيعوها من أجلِ الزائِلِ مِنَ الدُّنيا، اجعلوا ثمنًا لأنفُسِكُم، الجَنَّةَ التي خَلَقَها اللهُ سُبحانهُ وتعالى لكُم. {إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المؤمنين أنفُسَهُم وأَموالَهُم} إنَّ اللهَ اشتراها منَ المؤمنين أي جعلَ عاقِبَتَهُم إذا سَلّموا أمرَهُم للهِ سبحانه وتعالى وأَطاعوهُ على ما أَمَرَهُم أن تكونَ لهُم الجَنَّة، ومَن مَلَكَ نَفْسَهُ فهوَ مالكٌ حقيقيّ، من مَلَكَ نَفْسَهُ هُوَ المالكُ الحَقيقيّ.

  إذا كانَ الوَلاءُ على ما ذَكَرْنا هُوَ الطَّاعَةُ وهُوَ الحُبّ، فإنَّ الوَلاء في تعريفِهِ عندَ الفَلاسِفَةِ هُوَ الإخلاص، هوَ الرّوح التي تجعَلُكَ تُقدِمُ على الأشياء من غير أن تُفَكِّرَ في عاقِبَةِ مَوْتٍ أو حياة، لأنكَ بها تملِكُ الحَيَاة، حتّى أنَّ الذي يقتُلُ نَفسَهُ لا يقتُلُ نفسَهُ كُرهًا للحياة وإنَّما يقتُلُ نفسَهُ حُبًّا لحياةٍ أُخرى هيَ أفضَلُ مِنَ الحَياةِ التي كانَ عليها.

  الوَلاءُ في مَمْدَئِهِ الشَرْعِيِّ واللُّغَوِيِّ والفَلسَفِيِّ يقتضي الإخلاص، وإذا مَلَكْتَ نفسَكَ فأنتَ قد أحسَنتَ ذلكَ الوَلاء.

  اُنظُروا كيفَ أصبَحَ بعضُ النَّاسِ وهُم على باطِلِهِم يُقاتِلون ويقتلونَ أنفُسَهُم ولا يُبالون أينَ ذَهَبَت دِماؤهم مِن أجل أنَّهُم قد مَلَكوا ما يُسَمَّى بذلك الإصطلاح بـ (الروحِ الحَقَّة) التي لا يلتفِتُ الإنسانُ بعدها إلى ما يُصيبُهُ مِنَ النَّوائِب، ولا إلى ما يعتريه مِنَ البلاءِ ولا مِنَ النَّوازِل، فإذا وَقفَ مُخلِصًا لنفسِهِ بأن أدْبَرَ عنها. يقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (أَقْبِل على نَفسِكَ بالإدبارِ عنها) يكونُ إقبالُكَ عليها إذا أردتَ أن تكونَ مُقبِلاً عليها، بإدبارَكَ عن أهوائِها، وعَن شَهَواتِها، وعن نَزَواتِها، فهكذا أنتَ مُقبِلٌ على نفسِكَ مَع إدبارِكَ عنها.

  من الأبيات التي نُسِبَت للفيلسوفِ وللمَنطِقِيِّ وللطبيبِ المشهور ابنِ سينا:

هَذِّبِ النفسَ بالعُلومِ لتَرقَى   وتَرى الكُلَّ فهِيَ لِلْكُلِّ بَيْتُ
فإِنَّما النَّفسُ كالزُّجاجَةِ والعِلمُ   سِراجٌ وحِكْمَةُ اللهِ زَيْتُ
فإذا أشْرَقَت فَإِنَّكَ حَيٌّ   وَإِذا أظْلَمَت فإِنَّكَ مَيْتُ

  مِن هذا الباب تكونُ طاعةُ اللهِ سُبحانهُ وتعالى بمُخالَفَةِ النَّفسِ الأمَّارَةِ بالسّوء فتكونُ عندها على أَوَّلِ درجةٍ وعلى أوَّلِ منزلَةٍ مِن منازِلِ الوَلاء.

إنَّ الوَلايةَ لهِيَ خيرُ وَسيلَةٍ   بِشُروقِها ثَقُلَت وماأدراكي

  على ما قالهُ العَلّامَةُ الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورِضوانه عليه.

  معاني الوَلاء التي هي في الأصلِ الطاعَة مُتَّصِلَةٌ بمُلكِ النَّفس، لأنَّ تأديبَ النَّفسِ هو أوَّلُ درجةٍ تستطيعُ بها أن تُطيعَ مَن تَدَّعي وَلاءَهُ، وإِلّا فكيفَ يكونُ اللهُ سبحانه وتعالى أملَكَ بنفسِكَ مِنك. يقول العَلّامَةُ الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورِضوانه عليه:

فَكَّرْتُ فيما يُريحُ النَّفسَ مِن وَصَبٍ   ويُنقِذُ القَلبَ مِن هَمٍّ ومِن حَزَنِ
فمَا وَجَدتُ فَتًى يَصفو لهُ زَمَنٌ   ولا أخا مِنْحَةٍ يَخلو مِنَ المِحَنِ
ولَم أَجِد راحَةً للنَّفس كاملةً   ضِمْنَ الشَّرائِعِ والأسفار والسُّنَنِ
إلّا التَّقِيَّةَ والتَّسليم يَعْضُدُهُ   صِدْقُ الوَلاءِ يقينًا في أَبي الحَسَنِ
حَيِيْتُ في ذاكَ مُرتاحَ الضَّميرِ كذا   إنْ شِئتَ تحيا حياتي ناعِمًا فَكُنِ

  وهل تكونُ الوَلايَةُ قبلَ أن يستطيعَ الإنسانُ أن يُطيعَ الإمامَ الذي قال (الدُّنيا دارُ مَمَرٍّ لا دارُ مَقَرّ، والنّاس فيها رجُلان: رَجُلٌ باعَ فيها نَفْسَهُ فأوبَقَها، ورَجُلٌ ابتاعَ نَفْسَهُ فَأعتَقَهَا).

  فليَنظُر مَن أَرادَ أن يُعتِقَ نفسَهُ مِن أجلِ أن يكونَ مُقبِلًا على نفسِهِ، ومِن أجلِ أن يكونَ قادِرًا على أن يبيعَ نَفسَهُ لمن يُحِبّ في طاعةِ الله، وعلى أن يكون من الذين قال اللهُ سبحانه وتعالى فيهم ووصفهُم بأنَّه اشترى منهم أموالَهُم وأنفُسَهُم. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} التوبة\111. فمن أراد أن يكون من هؤلاء فليُجاهِد نفسَهُ مِن أجلِ أن يكونَ مِمَّن والى مَن أَمَرَهُ بأن يَملِكَ نَفسَهُ وعلى أن يكونَ مُطيعًا لمن قال له كيفَ يُصلِحُ غَيْرَهُ مَن لا يُصلِحُ نفسَه.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى لنا ولكُم حُسنَ العاقِبَة، اللهم صلِّ على محمد وآل محمد...