النظرة العامة للعلويين في: العدالة الإنسانية في التشريع الإسلامي..

أُضيف بتاريخ السبت, 12/03/2011 - 13:11

العدالة الإنسانية في التشريع الإسلامي

 

قال : (الإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كره).

هذا الحديث من أوضح الأدلة على العدالة الإنسانية والتعاون المشترك في المبادئ الإسلامية بين كل الناس. ويُفهم من هذا القول أنّ التعاليم الإسلامية لا تقبل التفرقة أو العداء لأي إنسان آخر إلا لأسباب يُحدّدها الشرع الشريف، فالكل أخوة شاؤوا أم أبوا، ولا تقبل أن يعيش واحدٌ من الناس لمصلحة نفسه فقط إلا إذا كان هذا العيش لا يضرّ بمصالح الآخرين.

وإذا يستحيل على المرء أن يكون مؤمنًا بهذا الدين إلا إذا انضمّ بكل ما يعمل إلى أبناء جنسه يُساعدهم ويتعاون معهم في ميادين الحياة، فالناس من حيث المبدأ كلهم سواء لا تميّز بينهم إلا بالتقوى، شعارهم التعاون، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى. وعلامة أحدهم (إذا رضيَ لا يُدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يُخرجه غضبه عن الحق).

وهُم في أعمالهم يُشبهون عُمّالاً في مصنع من المصانع، كل واحدٍ منهم له وظيفة يؤديها وعمل يقوم به. وكل تقصير أو إهمال في عمل من أعمال هذا المصنع يرجع ضرره على الجميع، وكل جدّ ونشاط يقوم به فرد من الأفراد يعود نفعه على الجميع، وأفضل هؤلاء العمّال أقدرهم على العمل وأكثرهم إخلاصاً فيه.

يؤيّد هذا قوله (الخَلقُ عيالُ الله وأحبكّم لله أنفعكم لعياله).

هذه بعض الصور من العدالة الإجتماعية في المجتمع الإسلامي العربي وممّا لا ريب فيه أنّ هذه العدالة ذات صور متنوعة ولكنها بمجموعها تتلخص في أمور أربعة وهي:

  1. الإعتراف بالفضل لكل مُتفضِّل.
     
  2. احترام الحقوق لأصحابها من جميع الناس.
     
  3. الوفاء بالعهود.
     
  4. المبادرة إلى إصلاح كل إساءة مهما صغُرَت.
     

الأمر الأول:   الإعتراف بالفضل لكل مُتفضـّل.

ومعلومٌ أنّ أوّل متفضّل بعد الله سبحانه، الوالدان. ولهذا أمر الله بشكرهما بعد الشكر لذاته سبحانه فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ

وأمر الله تعالى بعد عبادته بالإحسان في معاملة الوالدين فقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...

وقال رسول الله لمن سأله عن أَوْلى الناس باحترامه؟ فقال : أمّك. قال: ثم من؟ قال : أبوك.

ومعنى هذا أنّ احترام الوالدين وطاعتهما هي الفريضة الواجبة الأداء بعد طاعة الله وعبادته.

وأنّ حقوق الوالدين والخروج عن طاعتهما خروج على طاعة الله وأنّ جحود فضلهما جحود لفضل الله.


الأمر الثاني:   احترام الحقوق لأصحابها من جميع الناس.

فالعدالة في المجتمع الإسلامي ترى أنّه ما من موجود في هذا الوجود إلا وله حق يجب أن يُؤدّى إليه في حالة الرضا أو في حالة الغضب وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..

والحقوق كثيرة ومتنوعة: وأولها حق الله، ثم حق النفس، ثم حق الأهل، ثم حق الجار، ثم حق الناس ...إلخ.

  • فحق الله طاعته وعبادته.
     
  • وحق النفس أن لا تهلكها بارتكاب المعاصي.
     
  • وحق الأهل توجيههم إلى الفضيلة وإعانتهم عليها وتنفيرهم من الرذيلة والإبتعاد بهم عنها وإعانتهم في حالة العَجَز ومساعدتهم في حالة الضعف.

قال (إنّ لربك عليك حق، ولنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق، وكل من قصّرت عن حقه طالبك به يوم القيامة).

وقد أمر الله بتأدية هذه الحقوق إلى أصحابها فقال سبحانه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

وقال عز وجل: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ..

قال (والله لتؤدّن الحقوق إلى أهلها حتى تنتصف الجماء من القرناء، والحجر من الحجر إذا وقع فوقه).

وقال الإمام علي زين العابدين : (لجيرانك عليك حق، ولبلدك عليك حق، ولأمتك عليك حق، ولسلطانك عليك حق..)

وعدّد حقوقًا أخرى وتفسير هذه الحقوق وتفصيلها في كتاب (تُحف العقول) من أراد الإطلاع عليه فليطلبه من هناك.


الأمر الثالث:   الوفاء بالعهود.

لقد ذكر الله سبحانه أنّ من المؤمنين من صدقوا بعهودهم له فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ..

وقال سبحانه: وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

وجعل من صفات المؤمنين الوفاء بالعهود فقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ...

وبيّن رسول الله  أنّ عدم الوفاء بالعهود من أخلاق الكافرين فقال (لا أمانة لمن لا إيمان له).

فلينظر الذين لا يحترمون العهود ولا يوفون بها ولا يُحافظون على الأمانة في أي طريق يسيرون ومع أي قوم يضعون أنفسهم.


الأمر الرابع:   المبادرة إلى إصلاح كل إساءة مهما صغُرَت.

معلوم بلا جدل أنّ صغار الأمور مقدمة إلى كبارها، وقديماً قيل إنّ أول السيل قطرة وأول النار شرارة وأول المشاجرة كلمة ثم تتبعها كلمات وربما اندلعت نار فكانت فتنة.

ومعلوم أيضًا أنّ التهاون في الأمور البسيطة يوقع في الأمور الجسيمة، وينبغي على الإنسان العاقل المفكر المؤمن بهذه العدالة الإنسانية أن يقف من هذه الأمور موقف الحازم بسبب خطورتها وضررها وأن يُحاربها بكل ما أوتيه من قوة سواء بيده أو بلسانه أو بقلبه. قال رسول الله : (من رأى منكم منكراً فليدفعه بيده... إلخ).
وقال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت").

وقال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ....

فعلى من يُحسّ أو يشعر أنه وقع في إساءة قبل أن يتفاقم الخطب وتفسد الأمور أن يُبادر إلى إصلاح تلك الإساءة.

هذا ما تيسّر من سرد الأدلة في الأمور الأربعة التي تتضمّن العدالة الإجتماعية في التشريع الإسلامي العربي.


ولعلّ أول من طبّق هذه العدالة وعمل بها بعد رسول الله الإمام علي حيث قال:

(اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك،
فأحبب لنفسك ما تحب لغيرك،
واكره له ما تكرهه لها،
ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلَم،
وأحسِن كما تُحب أن يُحسَن إليك،
واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك،
وارضَ لنفسك من الناس ما ترضاه لهم من نفسك)
.
ثم إنّ التعبدات في هذا التشريع نوعان:   عبادات ومعاملات.
  • ففي العبادات توجّه الأوامر للمؤمنين وحدهم كقوله تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ..

    وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...

    وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ...

    إلى كثير من أمثال هذه الآيات وكلها يُلاحظ أنّ الأمر فيها للمؤمنين بهذا الدين فقط ولا يتعداهم لأنه من لوازم إيمانهم وضرورات تعبداتهم.
  • وأما في المعاملات وما يتبعها أو يترتب عليها من نفع وضر وثواب وعقاب وخير وشر فالخطاب يجيء موجهاً فيها لجميع الناس مما يشمل المؤمن والكافر ومن يتعامل معهم ولا فرق في هذا التشريع من حيث المعاملات بين إنسان وآخر ويكفي للدلالة على ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ...

    وقوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..

 

فلينظر العاقل في هذه العدالة الإنسانية التي أوجدها الإسلام لعدم تفريقه أو تمييزه بين المسلم وغير المسلم في المعاملات فكل من كانت له أمانة أو حق توجب هذه العدالة تأديته إليه، وكل من قصّر في عمل مهما كانت رتبته فهي تأمر بملاحقته وعقابه، وإليكم الأمثال:

هذا صاحب هذه الرسالة الإسلامية يُهدده رب العزة بقوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ .. وهو أقدس شخصية وأكرم مخلوق عند الله برأينا نحن المسلمين.

وهذا محمد يقول لبضعته الزهراء وهي سيدة نساء العالمين (لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

وهذا علي وقد رأى ابنته تلبس حليًا من بيت المال في يوم العيد يقول: (الويل لها لو لم تكن أخذته عايرة مستردة لكانت أوّل هاشمية قطعتُ يدها من سرقة).

والأمثلة في هذا لا يحويها الحد ولا يحصرها العد.

وهكذا تقضي العدالة في هذا الدين أن يُلاقي كل مخلوق جزاء عمله من إنسان وحيـوان ونبات وجماد. قال : (لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها حتى لتنتصف القرناء من الجماء والحجر من الحجر إذا وقع عليه فدقّه).

وعلى هذا فلا إيمان المؤمن يحول دون عقابه إذا أساء، ولا كفر الكافر يمنع من ثوابه والإحسان إليه إذا أحسن.
 

ونهاية القول وخلاصته ما ورد في هذه الآية الكريم: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا.