في معرفة الفضيلة والرذيلة عند العلويين..

أُضيف بتاريخ السبت, 02/06/2012 - 06:18

الفضيلة والرّذيلة

 

قال تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ صدق الله العظيم

تُبيّن هذه الآية أنّ الفضل لله وأنّه بيد الله، وليس للإنسان من الفضل إلاّ بقدر ما يُؤتيه الله، وعلى هذا فليس للتقي أن يدّعي فضلاً بتقواه، ولا للعالم أن يدّعي فضلاً بعلمه، ولا للمُحسن أن يدّعي فضلاً بإحسانه، فالتقوى والعلم والإحسان نِعَمٌ أنعَمَ الله بها على الإنسان. قال الشاعر:

فلا تدّعوا فضلاً وإن نلتُم تُقى   وعلماً فإنّ الفضلَ مَسلكُهُ صعبُ


وما فضيلة الإنسان في هذه الحياة إلاّ اتباعه للفضيلة وهو قادرٌ عليها، وابتعاده عن الرذيلة وهو قادرٌ عليها، وعمله على تخليص نفسه من شوائب الرذيلة قبل أن يقع في فعلها، ذلك لأنّ الفضائل تمتزج بغيرها في بعض الأحيان لا بل ربما تحوّلت الفضائل إلى أضدادها في فهم الناس أو في بعض الأفعال، ولهذا يُقال أنّه ما من فضيلة من فضائل الإنسان إلاّ ولها رذيلة من شكلها، ولا رذيلةٌ إلاّ ولها فضيلةٌ من جنسها.

وهذا هو السبب في صدور الأحكام الخاطئة من الناس، فربّما يُنسب إلى إنسانٍ ما الفضيلة التي هي من شكل الرذيلة. أو الرذيلة التي هي من جنس الفضيلة. ولنضرب على توضيح هذا القول مثلاً: يُحكمُ في بعض الأحيان على الحازم المُتأنّي بأنّه رعديد جبان، أو على المُقتصد المُدبّر أنّه بخيلٌ شحيحٌ وهكذا..

ويُحكم على المُبذّر المُسرف أنّه جوادٌ كريمٌ، أو على الوقح القليل الحياء أنّه جريءٌ صريحٌ، أو على الطائش المتهوّر أنّه شجاعٌ مِقدامٌ، ولا يوجد ميزانٌ تُعرف به قِيَم الأعمال، ولا مِقياسٌ تُقاسُ به الأفعالُ، ولا ما يُميّز بين الخير والشرّ ولا بين الفضيلة والرذيلة، إلاّ تعاليم الدين ومبادئ الدين، فكُل ما ينطبق على الدين وتعاليمه فضيلةٌ، وما يُخالف الدين وتعاليمه رذيلةٌ، فالدين هو الذي يُعلّمنا أنّ الإقتصاد وتنظيم الحياة المعاشيّة بحيث يكون الصرف بمقياس الدخل هو الفهم والحكمة والتدبير، وأنّ الحرص والتقتير والتأخّر عن كثير من الواجبات بعد توفّر الدخل والمادّة هو البخل والإمساك. قال تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا. وقال في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَ‌ٰلِكَ قَوَامًا.

وتعاليم الدين تُبيّن أنّ الكلام في غير محلّه أو بعبارةٍ أوضح، في غير وجوه الخير والإصلاح ثرثرةٌ ولغوٌ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا.

وترشدنا تعاليم الدين أنّ الحذر والحيطة والتأنّي والتروّي حتى يتمّ إعدادُ العدّة واستحضار القوّة لمواجهة العدو في الوقت الذي لم تتوفّر فيه إمكانيّة الإقدام فيه على العدو هي الشجاعة والبطولة والحزم، قال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ..

وتدلّنا تعاليم الدين أنّ التأخّر عن القتال إذا كانت القوّة متوفّرة والإمكانيات موجودة جُبنٌ وذلٌ وعارٌ، وقال تعالى: إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ.

أمّا الناس فلهم أقوالٌ تختلف عن هذه الأقوال، فهم يحكمون على الأحداث والأشياء حسب نتائجها لا حسب النصوص فيها.

فمثلاً لو انقضّ رجلٌ على مئةٍ من الرجال وقتل منهم خلقًا كثيرًا وهرب آخرون أو انهزموا جميعًا، قالوا عنه فارسٌ مقدامٌ، وإذا قتلوه قالوا عنه طائشٌ متهوّرٌ.

وإذا أنفق أموالاً حتى لو كانت بالإستدانة ومَنّ الله عليه بموسمٍ جيّد فتخلّص من دَينِه وركّز أوضاعه، قالوا كريمٌ معطاء، وإذا أفلس وباع ثروته وافتقر، قالوا أحمق مُسرف..

وهكذا على من يُريد أن يحكم على الأشخاص أو على الأعمال أن يبني حُكمه على تعاليم الدين لا على الأقوال الفارغة والآراء السطحية، ثم من أراد أن يحكُم بتعاليم الدين أن لا يتمسّك من الدين بألفاظٍ يجهلُ كيفيّة التصرّف بها كـ (العفو والصفح والتسامح)، ولا بأقوالٍ يفسّرها تفسيرًا يفصل الدين عن الحياة ويُحوّل عزّة الإيمان والمؤمنين إلى ذلّ كقول من قال: (من ضربك على خدّك الأيمن حوّل له الأيسر)، و(من طلب قميصك أعطه الرداء) (إلخ)..

وكقوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ. وقوله سبحانه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.. فنحن لا ننكر أنّ الدين أمر بالتسامح والعفو عمّن أساء ولكن لا يعني هذا أنّ العفو واجبٌ وفريضةٌ عن كُلّ مُجرمٍ أو مُسيءٍ حتى ولو كانت جريمته فيها خراب البلاد وإساءته فيها هلاكُ العِباد نزولاً عند قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ.

فإنّ تفسير العفو بهذه الطريقة السطحية تخديرٌ للمشاعر وتضليلٌ للأفهام لا يرضى به الدين ولا العُقلاء ولا الله سبحانه. نعم عفى الأنبياء عمّن أساء إليهم ولكنّهم أرادوا بهذا العفو أن يسمو العاقل بعقله عن الجاهل الأحمق وأن ينظر إليه كما ينظر الرجل البالغ إلى الطفل الصغير الذي لا يُميّز بين اللعب والضرب، فكما يجب أن يتسامح البالغ مع الطفل ويدلّه برفقٍ على أخطائه ليُصلحها أو يُصَلّحها له كذلك يجب أن نتسامح مع الجاهل ما دامت تصرّفاته لا تضرّ بالصالح العام وحقوق المجتمع.

أمّا إذا أضرّت تصرّفاته بالآخرين، ونُهيَ عنها ولم ينتهِ، فليس لأحدٍ أن يتسامح عنه ولا أن يصفح عنه أو يعفو عن فعله.

ذلك لأنّ الحق نوعان: حقّ لله وحقٌ لعباد الله.
  • فحق الله هو الذي يُسمّى بالمصلحة العامّة، وهذا الحق أمرُهُ لله فلا يجوز لأحدٍ أن يُسقطه ولا أن يتسامح فيه، ومن أجل المحافظة على هذا الحق أمر الله نبيّه بالجهاد فقال عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.. وقال سبحانه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ.
     
  • أمّا حق العباد فكُل إنسانٍ له كل الحُريّة أن يتسامح عن حقّه إذا أراد التسامح، عملاً بقوله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. وبقوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.

وهكذا يتّضح أنّ المقصود من العمل بتعاليم الدين والحكم بموجبها على أعمال الناس أن يكون الغرض من العفو والصفح، التدريب والإرشاد إلى الهداية والرُشْد، وأن يُواجه العاقل الأمور الحقيرة بالإغضاء والصفح لا بالقساوة والعنف.

ولعلّه يتبيّن ممّا قدّمناه شيء من كيفيّة التباس الفضائل بالرذائل وامتزاجها بها في بعض الأحيان، وأنّ تعاليم الدين خيرُ مُنقذٍ من الوقوع في أمثال هذه الأخطاء، فمن أراد أن يكون عمله خالصاً من كُلّ شائبةٍ فليتمسّك بالدين وتعاليمه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.