العفو الفرنسي وعودة الشيخ صالح

أُضيف بتاريخ الخميس, 08/04/2021 - 03:19

العفو الفرنسي وعودة الشيخ صالح


مضى على اختفاء الشيخ سنة كاملة، والفرنسيون يَجِدّون في أثره ويتعقّبون خُطاه خائفين قلقين، وقادتهم غير أُمناء على مراكزهم، مادام الشيخ بعيدًا عن مُتناول أيديهم يتأهّب للنّزال ويستعد للنضال، ونشطت جاسوسيتهم وبرزت الأموال، ولكن بلا جدوى...

ولما عجز الفرنسيون عن اعتقال الشيخ وجنودهم تملأ الجبل زاعمين أنّ الشيخ لا يزال في الجبل وأنه يُحصي على جنودهم الأنفاس، وجدوا أن لا طاقة لهم بالإستمرار على هذه الحال، فأيقنوا بضرورة إصدار عفو عنه، وإذاعة قرار العفو بواسطة الطائرات كما أذيعت من قبل قرارات الإعدام، وحلّقت الطائرات في سماء الجبل تقذف مناشير تحمل قرار العفو عن الشيخ، مُذَيَّلَةً بتوقيع الجنرال (غورو)، وهو يُقسم بشرفه العسكري أنه لن ينال الشيخ بأذى ولن يمسّه بسوء..

وانتشر الخبر في أنحاء الجبل، ووصلت أخبار العفو إلى الشيخ فتوجّه إلى (بشراغي)، وكان على علم تام بكل ما يجري في شتى نواحي الجبل، وأصبح على صلة وثيقة بحركات الجيش الفرنسي وما يقوم به من أعمال البطش والفتك والتخريب، حتى إنّ القومندان (رساك) كان يقذف بمن يشتبه بهم من أعلى برج صافيتا الذي يُقارب ارتفاعه الخمسين مترًا بدون شفقة ولا رحمة، وإنّ قُرًى كثيرة أُحرقت بمجرد الإشاعات أنّ الشيخ لجأ إليها واختبأ فيها، 1 فأدرك الشيخ أن لا خلاص للسكان إلا باستسلامه لأعدائه.

ورحمةً بمن أَرْهَقتْ كاهلهم مظالم الإحتلال ومتاعب المحتلين، قرّر الشيخ الإستسلام، وهو يردد قوله تعالى: وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.

وذهب الشيخ لمقابلة الجنرال (بيلوت) في (اللاذقية)، فاستقبله بمراسم الإحترام والتقدير الرسمية، وقام بواجب الضيافة والإكرام، ثم سأله عن السبب الذي أخّره عن الإستسلام فأجاب الشيخ بعبارته الخالدة:

(والله لو بقيَ معي عشرة رجالٍ مجهّزين بالسلاح والعتاد الكافيين لمتابعة الثورة لما تركت ساحة القتال).

فأبلغه الجنرال أنّ الفرنسيين سيحترمون قرارهم بالعفو عنه، ولن يمسّونه بأذى أو مكروه، وطلب إليه مقابلة قائد الجيش المتواجد في طرطوس وأن يبقى على اتصال معه وألاّّ يُغادر الجبل إلا بإذن منه. 2

غادر (الشيخ صالح العلي) اللاذقية وبرفقته (الشيخ سليم صالح)، وما أن وصلا طرطوس ودخلا حرم القيادة الفرنسية، حتى أخذ الجنود بسلاحهم يؤدون التحية العسكرية، احترامًا للشيخ وهيبته التي أيقظت ذكريات نضاله في نفوسهم، واستقبلهم القائد الفرنسي، وكان قد حقد على الشيخ لأن استسلامه لم يتم عن طريقه، معاتبًا تارةً ومُستخفًا تارة أخرى وهو يقول:

(كم وكم أتعبتنا يا شيخ صالح، ونحن نبحث عنك في كل مكان من أجل أن تستسلم لكي نختصر عليك كل هذا العذاب، ألم تُدرك بأنك لو لم تستسلم طواعية لكنت ستستسلم بحد السيف..؟)

تقضّب وجه الشيخ وثارت ثائرته، وفار الدم في عروقه وهمّ بالإنقضاض عليه، إلاّ أنّ الشيخ سليم صالح كان إلى جانبه، فاستمسك به، في الوقت الذي أسرع فيه الجنرال معتذرًا مُكررًا اعتذاره عن ذلّة لسانه، إلى أن هدأت ثورة الشيخ وقال له: والآن ماذا تريدون مني..؟

فطلب منه الجنرال بنوع من الترجي أن يُلبي طلب حكومته بتسليم كافة ما لدى الشيخ ورجاله من أسلحة وذخيرة، وأعطاه مهلة كافية لتنفيذ ذلك، ثم أرفقه بسكرتير خاص إلى عرينه في الجبل.

وما أن وصل الشيخ صالح إلى (الشيخ بدر)، حتى قام أهلها شيبًا وشُبّانًا ونساءً ورجالاً بالتهليل والترحيب، فَرحين مسرورين بعودة الشيخ سليمًا مُعافى إليهم، بعد طول ما عاناه خلال سنوات الثورة.. ورغم توافد آلاف المُهنئين بالسلامة، فقد أرسل الشيخ يطلب إلى القيادة الفرنسية في طرطوس كي ترسل إلى طرفه من يستلم السلاح المُتبقي، فكلفت القيادة ضابطًا برتية عالية للقيام بهذه المهمة.

وبكل احترام وتقدير وإجلال، وأمام جموع المهنئين، اقترب الضابط الفرنسي من الشيخ، فحياه تحية عسكرية، ووقف أمامه منتصب القامة، وقال:

(أشكركم يا شيخ صالح على وفائكم بالوعد، وأريد أن أنقل لسماحتكم شكر وتقدير القيادة الفرنسية لجيوش الشرق، فقد فوّضتني حكومتي أن أخيّركم في منصب سياسي، أو وظيفة محترمة براتب وفير، أو أيّة خدمات شخصية مهما تكن تكاليفها..)

فقاطعه الشيخ قائلاً:

اتركوني في قريتي لا يراني***أحـــدٌ طالبًــــا ولا مطلوبًـــــا
أعبـُدُ اللهَ في الجبــال بعيــدًا***عن حُطامٍ يجني عليّ الذنوبا

لكن الحكومة الفرنسية لم تأمن جانب الشيخ، لمعرفتها أنه يملك شعبية كبيرة ومكانة قُدْسِيّة لا تُضاهى، فلجأت إلى تكرار العروض المُغرية عليه وهو يتمنّع عن قبولها، ثم لجأت عن طريق بعض رجالاتها إلى ترغيبه بالسفر إلى المهجر، مُستغلة إلحاح المغتربين في مئات البرقيات التي أرسلوها للشيخ يطلبون فيها زيارته لهم، ودون استشارة أحد قرّر الشيخ على السفر لمُدّة محدودة، وتمّت الإجراءات النظامية المُتّبعة للسفر بحرًا، ثم قصد طرابلس فبات على نية السفر، عند أصدقائه المخلصين من (آل المقدم أقارب آل عدرا من قلعة الخوابي) فلم يتركوه لحظة واحدة وهم يُحاولون إقناعه بالإقلاع عن هذه الفكرة، مُؤكدين له أنّ وراء هجرته مُؤامرة ومَكيدة مدبرة لإخراجه من البلاد، وعدم السماح له بالعودة إلى الوطن فيما بعد.. الأمر الذي جعله يُعيد النظر في قراره.. وأخيرًا ألغى السفر، وعاد إلى قريته وبيته وأهله ومُحبيه.

وقد أكّد لي جميع معاصري الشيخ بعد الثورة، أنّه أمضى بقية سِني حياته حَسَنَ العقيدة كثيرَ الذِّكر لله تعالى شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، كان يحرص على الصوم غاية الحرص فإذا مرض أحصى ما فاته من الصوم وقضاه، كان يُحب سماع القرآن الكريم.. كان رقيق القلب خاشع الدمعة.. إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عيناه.. كان كثير التعظيم لشعائر الدين كثير الظن بالله كثير الإعتماد عليه عظيم الإنابة إليه، لم يردّ قاصدًا أبدًا ولا منتحلاً ولا طالب حاجة كان كريمًا يُعطي في وقت الضيق كما يُعطي في حال السِعة، كثير المروءة نديّ اليد كثير الحياء، مبسوطَ الوجه لمن يَرِدْ عليه من ضيوف.. لا يرى أن يفارقه الضيف حتى يطعم عِنده ولا يخاطبه بشيء إلا ويُنجزه..

كان حسن العِشرة، لطيف الأخلاق، طيّب الفكاهة، حافظًا لأنساب العرب ووقائعهم، عارفًا بسيَرِهم وأحوالهم، حافظًا لأنساب خيلهم، عالمًا بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره.. يسأل الواحد من رجاله عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله.. كان طاهر المجلس لا يذكر أحد بين يديه إلا بالخير، طاهر السمع فلا يحبّ أن يسمع من أحد إلا الخير.. طاهر اللسان فما سُمِعَ يشتم أحدًا قط.. طاهر القلم فما كتب بقلمه ما يؤذي أو يضر.. كان حسن العهد والوفاء فما حضر بين يديه إلا ترحّم على والديه وجبر قلبه وأحسن إليه.. وكان لا يرى شيخًا إلا ويرقّ له ولا محتاجا إلا ويمدّ له يد العون..

كان شديد المواظبة على الجهاد عظيم الإهتمام به، فعندما أمعن الفرنسيون في التنكيل بالوطنيين، واعتدوا على المجلس النيابي وأحرقوه، هبّ الشيخ صالح العلي إلى مؤازرة الحكومة الوطنية، وأعدّ رجاله لخوض المعارك، وأرسل برقية إلى رئيس الجمهورية السورية وقتئذ (شكري القوّتلي) يقول فيها:

( سيوف المجاهدين تتململ في الأغماد، ونفوسهم في غليانٍ واضطراب،

لا نقبل أن تُمتهن كرامة الأمّة وتُمزّق حُرْمَة الإستقلال،

إننا للمعتدين بالمرصاد، وسيرى الظالمون أيّ مُنقلبٍ ينقلبون
).


هزّت هذه البرقية البلاد، وأوقعت الفرنسيين بحَيْرَة وقلق وخوف وارتباك، وأرسل إليه (سعد الله الجابري) رئيس مجلس الوزراء برقية يقول فيها:

( برقيتكم هزّت الضمير الوطني، وأيقظت الشعور القومي،

وهيّجت في نفوس المخلصين حب الجهاد، والرغبة في الإستشهاد
)


ونتيجة لظروف قاهرة اضطر الشيخ لإرجاع السيف إلى غمده من جديد وهو في حال توثّب وانتظار. 3

  • 1 من هذه القرى (عين الذهب والمعمورة) ولا تزال آثار الحريق بادية فيها إلى الآن.
  • 2 راجع: سورية والأنتداب الفرنسي- تأليف يوسف الحكيم.
  • 3 كان الوضع في محافظة اللاذقية يختلف عنه في بقية المحافظات، إذ أنّ بعض الإقطاعيين كانوا يتهيّؤن للوقوف إلى جانب الفرنسيين عندما تنشب حركة ما ضدّهم، وحينئذٍ ينقسم الشعب على نفسه، وتقع الكارثة.