السعي إلى ضخ الروح مجدّدًا في الثورة

أُضيف بتاريخ الخميس, 08/04/2021 - 03:16

السعي إلى ضخ الروح مجدّدًا في الثورة


وصل الشيخ صالح إلى قرية (بشراغي) ونزل عند أخواله (آل عيد) بينما هرع إليه أهل القرية وجوارها يستقبلونه ويتبركون برؤيته وينعمون بطيب لُقياه، بعد أن اضطربت قلوبهم لما قد سمعوه من أنباء فشل الثورة وخسائرها الفادحة في الجنوب.. وغمرت تلك الأرجاء موجة من البِشر والطمأنينة ليس لها حد.

وسمع الفرنسيون بقدوم الشيخ إلى (بشراغي) فقرروا الإسراع في مبادهته بالهجوم قبل أن يُتمّ استعداده ويتأهّب للدفاع، في الوقت الذي كان فيه الشيخ يُدرك أنّ الفرنسيين لن يُوَفّروا دقيقة واحدة في البحث عنه ومطاردته، فطلب إلى وجهاء تلك النواحي الإجتماع بهم على مقام (الشيخ حيدر الضهر) والتحدث معهم بشأن الثورة، وبادرهم بالسؤال:

( ماذا علينا أن نفعل والعدو جائمٌ في أرضنا وبلادنا محتلة.. ونحن وأهلنا نعاني الخسف والهوان؟ أنقف مكتوفي الأيدي مذهولين دون أن نعتبر..؟)

ثبّت المجتمعون أنظارهم في الشيخ الذي بدا كالأسد الذي يتأهّب للوثوب، وصرخوا بصوتٍ واحد:

( لا لن نقف مذهولين أو مكتوفي الأيدي بل سنعتبر، وسنبقى رهن إشارتك حتى الموت).

فانفرجت شفتا الشيخ المطبقتان عن بسمة أشبه ما تكون بالنذير وقال: (أسأل الله أن يُسدد خطانا جميعًا).

وما هي إلا ساعات حتى سيّر الفرنسيون حملة كبيرة للهجوم باتجاه الشمال لمجابهة الشيخ ورفاقه المجاهدين، ولم يكن مع الشيخ وقتئذٍ من الرجال المسلحين إلا ثلاثة وهم:

  1. ابراهيم شعبان.
  2. وابراهيم حبيب.
  3. وعبدو مرشد.

وبعض العُزَّل الآخرين الذين لا يحملون سلاحًا ولا يعرفون شيئًا عنه، وعندما اقترب الفرنسيون من المنطقة، سالكين (وادي الفتوح) الذي تقع على جانبيه هضاب مرتفعة تشرف على مداخله ومخارجه إشرافًا تامًّا، استنفر رجال (بشراغي) والقرى المجاورة لهم (بسنديانة – جيبول – الحمام) و(آل سيف الدين) من (الكنيسة) الذين أبلوا بلاءً حسنًا في معارك الشمال، وهبّ الجميع يحملون بنادق الصيد من قديم وحديث، وبلغ الحماس بهم أن أسرع بعضهم وهم يحملون الفؤوس والعصي وكأنّهم ذاهبون لسَوْق قطيعٍ من الغنم، ولكن تجمهرهم ورباطة جأشهم وشدّة بأسهم وإقدامهم المُستميت على الهجوم، ودفعهم للصخور لتسقط بكثافة من أعلى التلال المحيطة بذاك الوادي على الجحافل المتقدمة، ألقى الرعب في نفوس أفراد الجيش الزاحف، وسهّل المهمة على الشيخ ورجاله الثلاثة الذين أخذوا باصطيادهم الواحد تلوَ الآخر، وما لاح الظلام حتى انتهت المعركة مسفرة عن مقتل أغلب أفراد الحملة حيث لم يستطع الفرار من رصاص الشيخ ورفاقه إلا واحدًا وسبعين رجلاً تسللوا تحت جنح الظلام، بعد أن تركوا معداتهم وأسلحتهم. 1

ودوّت أخبار انتصار الثورة وما غنمته من سلاح وذخيرة، فتقاطر الناس أفواجًا للتطوّع والإنخراط في صفوف المجاهدين، كما انضمّت أكثر العشائر في ناحية (البودي) إلى الثورة، بقيادة المقدّم (إبراهيم صالح). فحسبت القوات الفرنسية حسابًا جديدًا للثورة في الشمال، وأرسلت حملة قوية جَبّارة لتطويق (بشراغي) وموقع (الشيخ حيدر الضهر)، لاحتلالها والقضاء على الثورة قبل أن يُتاح لها التوسّع أكثر، وكان قوام هذه الحملة يتألف من: 2

  1. فرقة موران : مهمتها الهجوم من الشمال إلى الجنوب بكتائبها الثلاثة: قرمش، بايار، أونج.
     
  2. فرقة ماجران فرين ريه : مهمتها دعم فرقة موران بكتائبها الثلاث السورية والجزائريتين.
     
  3. فرقة كليمان جرانكور : مهمتها القيام بأعمال التطويق بكتائبها الثلاثة الطونكية والجزائريتين وبطاريتي مدفع جبليتين عيار /65/ مم و /75/ مم.

وبدأ الهجوم على التوالي، فكانت أولى الإصطدامات في (وادي جهنم قرب بسطوير وجب عسعوس قرب نهر السن والسخابة وبارمايا والبودي) وكان النصر في معظم هذه المواقع حليف رجال الثورة، الذين قدّموا نفوسهم قرابين على مذبح الفداء، فاستشهد عدد منهم بينما مضى آخرون يُشاغلون الفرنسيين في الجنوب حتى يخفّ الضغط الفرنسي على إخوانهم في الشمال، وأخذ الثوار توجيهات الشيخ يناوشون الفرنسيين ويشنون الغارات عليهم فأغاروا على : ( الدويليو – الديمسيس – رأس ماسم – رأس ملوح – الأجرد 3 – قرفيص – جور البقر، ثم على جبلة).

وفي هذه الأثناء كانت القوات الفرنسية قد احتلت دمشق وحمص وحماه وبقية المدن الداخلية والساحلية ووصلت هذه الأخبار متتالية فكانت ضربة قاسية على قائد ورجال الثورة، وإيذانًا صريحًا بإخمادها والقضاء عليها، فبعد أن كان الملك فيصل وابن عمّه الأمير عبد الله – كما أسلفنا – يموّنانها بكل ما تحتاج إليه من مال وعتاد، أصبحت اليوم هي أحوج ما تكون إلى من يساندها حتى ولو عن طريق البيع، والشيخ يدفع من ماله الخاص أثمانًا باهظة لتموينها، وهو بعد هذا لا يستطيع الحصول عليه إلا بشق النفس والتعرّض لأشد الأخطار، لأن أولئك المتزعمين الذين باعوا ضمائرهم للفرنسيين بيع السماح، قاموا آنذاك بتنشيط الجاسوسية في تعقّب الثائرين وإحصاء أنفاسهم وطرق استيرادهم للسلاح، وهذا ما كان واضحًا عندما نجحت تلك الجاسوسية بمصادرة السلاح الذي كان قد استورده الشيخ صالح بواسطة (محمد الأرناؤط)، من لبنان وفلسطين تحمله عشرات الجمال، وسلّمته إلى الفرنسيين، وتقدّر أثمانه بآلاف الليرات الذهبية، وقد كانت هذه المصادرة بمثابة الإجهاز على الثورة، والقضاء عليها، إذ بذل الشيخ كل ما ادخره من معونات وتبرّعات الوطنيين، في المدن الداخلية والساحلية والجبل والمهجر.

أرسل الشيخ صالح المجاهدين (حبيب محمود وهزّاع أيوب)، للإلتقاء بالزعيم (ابراهيم هنانو) في (مرعش)، فأطلعاه على كل ما يتعلق بالثورة من حوادث وتفاصيل، وأظهروا له حاجة الثورة إلى المعدات والذخائر والأسلحة الحربية المختلفة، كما أطلعوه على رغبة الشيخ بإيفاد ضباط مُحَنّكين مُخلصين يُساعدونه بقيادة الثورة في مجاهل الجبل المختلفة، بعد أن تشعّبت جبهاتها واتّسع نطاقها وكَثُرت مواقعها.

وعاد المُجاهدان من طرف الزعيم (هنانو)، فأخبرا الشيخ عمّا لقياه من حفاوة وترحاب وتأييد وتشجيع ونيّة على مدّ الثورة بالمساعدات، ولا شك أنّ الشيخ كان يلقى أشد الصعوبات وأقساها في إيجاد الوسائل اللازمة لاستمرار الثورة، والحؤول دون إنهائها على هذه الصورة من الفشل والخيبة.

وبينما الشيخ ورجاله على هذه الحالة، حشدت القوات الفرنسية قواها الميكانيكية الهائلة، في الأمكنة التي كانت تحيط بمناطق الثورة من جميع الجهات، فمن (جسر الشغور) إلى (اللاذقية) إلى (جبلة فبانياس فطرطوس فمصياف فصافيتا)، فضلاً عن الأماكن المؤدية إلى منافذ الجبال ومسارب الوديان، وهي تُهَيّء الظروف للهجوم في وقت واحد على مناطق الثورة، بعد أن قام أفرادها بخطف الكثيرين من ذوي هؤلاء المجاهدين.

وما هي إلا أيام حتى أمر الجنرال (نيجر) القوات الجرارة الهائلة بالتحرك والإلتقاء في معقل الشيخ الحَصين، فتدفقت الجيوش الفرنسية من المَسارب والمُنعطفات كما يتدفق السيل الجارف من أعالي الجبال، مارة من: (الداب – بشراغي – بسمالخ – عقبة الزرزار – الحيلونة – جبل النبي صالح – جبل النبي متى) وفي جبهة طولها (عشرات الكيلو مترات)، في الوقت الذين كان فيه مَعينُ السلاح قد نضُبَ وفُقِدَ فقدانًا تامًّا من أيدي المجاهدين، وما يزالون يُعلّلون أنفسهم بقدوم (محمد الأرناؤط) بقافلة كبيرة مُحَمّلة بالأعتدة والذخائر -حيث لم تكن أخبار مصادرتها قد وصلت إليهم بعد- إلا أنهم قاوموا ببسالة كأنها المستحيل... لكن البسالة والجَلَد لا يُغنيان شيئًا عن السلاح في مثل هذه الحرب الضروس.

  • 1 يقول الشاعر محمود سليمان الخطيب في هذه المعركة:
    يـا رياض التاريخ هل فيكِ من      "فتــوح" زهـر؟ وهل لديك كبــاء
    من على السفح من ضحايا لو      استسقيت، جاد الدماء، وضنّ الماء
  • 2 راجع الكتاب الذهبي لجيش الشرق الفرنسي: إصدار القيادة الفرنسية العامة.
  • 3 جبل الأجرد: موقع يبعد مسافة 3 كلم شرقس (السخابة)، وقد شهِد معركة طاحنة استشهد فيها المجاهد أحمد عبد الحمبد، أحد قادة الثورة، وفيها يقول الشاعر محمود الخطيب:
    هل في سمعك الرهيف من "الأجـ      ـرد" لحـنٌ تعيــده الأصــداء
    الشهيـد الميمـون في قمّـة "الأجـ      ـرد" ودّت مكانــه الجـوزاء
    وسَلّـيـنــــــا إن تـغـمغـمــــت الأنـ      ـبـاءُ زورًا، فـإننــا خبــــراءُ