انتهاء الثورة وغدر العثمانيين واختفاء الشيخ صالح

أُضيف بتاريخ الخميس, 08/04/2021 - 03:17

انتهاء الثورة وغدر العثمانيين

واختفاء الشيخ صالح


وهكذا فقدت قيادة الثورة إشرافها المباشر على المعارك، وأفلتت من يدها أمر الرقابة على تسيير الجبهات، وأصبحت كل مجموعة تعمل بوحي من تفكيرها الخاص، الأمر الذي سهّل للمُرجفين والمُتآمرين استغلال الفرصة لتثبيط همّتهم، وهم في معزل عن قائدهم الشيخ ورفاقه البواسل، ونشطت حركة من هؤلاء بين أواسط المجاهدين -وهم في هذه الآونة الحرجة- نشاطًا كبيرًا، وهم ينقلون إليهم أخبار (محمد الأرناؤط) ومصادرة قافلته، فخارت عزائمهم وانحطّت قواهم وتفرقوا هنا وهناك، وقد عتّم عليهم دَيْجور اليأس وألم الخيبة وفقدان العزّة وكبت العاطفة وشقاء الضمير.

وهكذا انتهت الثورة الجبارة الصاخبة، وانطوت بانتهائها صفحة مجيدة من صحائف سجل الخالدين، وهي تحفل بأسماء شهداء هذه الثورة العظيمة الذين منهم المناضلون:

  • اسماعيل جنيد.
  • سليمان المعلم.
  • أحمد عبد الحميد.
  • علي الحاج علي.
  • عثمان تميمة.
  • سليم موسى.
  • حسن سعدية.
  • عزيز صيوح.
  • أسعد رقية.
  • علي فاطمة.
  • خليل محمد.
  • أحمد الشيخ خميس.
  • محمود علي اسماعيل.
  • محمود ضوا.
  • خيرو قصاب.
  • مصطفى خير بك.
  • علي زاهر.
  • حسن أبو النصر.
  • أبو محمد القلاعي.
  • أحمد عكيمار.
  • خليل ومحمد ومحمود زريق.
  • محمد المرقيه.
  • نورس طيبا.
  • عيد درويش.
  • مصطفى مجبورة.
  • صبحي حليمة.
  • جمال الأزهري.
  • أحمد إدريس.
  • أحمد كليلة.
  • وغيرهم...

وابتدأت صفحة جديدة من صحائف الهمجية الوحشية الفرنسية إذ بدؤوا بالإنتقام بعد الإنتصار، وعمدوا إلى وسائل تحطّ من قيَم البشر وتتدنى بهم إلى أسفل درك الإنحطاط . 1

واختفى الشيخ... وتوارى عن الأنظار وأخفق الفرنسيون بالقبض عليه للإنتقام منه، فرصدت حكومتهم مائة ألف فرنك فرنسي مكافأة لمن يُلقي القبض عليه أو يدل على مخبئه... وعدوا وتوعّدوا وأغروا وهدّدوا ولكن دون جدوى.

ولما فشل سعيهم التأمت حكومتهم العسكرية برئاسة الجنرال (غورو)، قرّرت الحكم على الشيخ بالإعدام، وعَمّمت هذا الحكم في مناشير تلقيها من الطائرات في كل مكان، ولم تمض أيام حتى انتشرت في الجبل كله أخبار الحكم بإعدام الشيخ صالح، فأمسك الناس قلوبهم بأيديهم، واستولى عليهم الرعب والذعر والهلع والقلق على حياة شيخهم ومجاهدهم وقائد ثورتهم الصاخبة.

وفي مكان مخفيّ اجتمع الشيخ برفاقه المتبقين، واتفقوا على مغادرة الجبل فورًا إلى قرية (متنين) التي تقع بين حماه ومصياف، باعتبارها بعيدة عن توقعات الفرنسيين، حيث أنّ للشيخ ورفاقه أصدقاء أوفياء كثر هناك. ولكي لا تكون عملية تنقلهم ملفته لنظر الجنود الفرنسيين المطوّقين للجبل، فقد اتفقوا على أن يكون التنقل إفراديًا ومُتزامنًا ومُمَوّهًا، وعيّنوا نقطة بالقرب من (متنين) لتكون نقطة التقائهم، ثم انطلق المجاهدون كل منهم بالإتجاه المحدد له.

وقد حكى الشيخ لبعض من زواره بعد سنوات من انتهاء الثورة: إنه بينما كان في طريقه باتجاه (متنين)، متنقلاً بثقة وأعصاب قوية ومُتَنَكَّرًا بِزِيّ فلاح رَثّ الثياب، التقى بأحد الجنود الفرنسيين المعسكرين في أعالي جبل (عين الكرم)، فصرخ به مستدعيًا، اقترب منه الشيخ وكأنّ شيئًا لم يكن قائلاً: ماذا تريد..؟
سأله الجندي: ماذا تفعل هنا أيها الرجل..؟
أجاب الشيخ: أبحث عن دابتي فقد فقدتها أمس..
قاطعه الجندي قائلاً: هل وجدت أحدًا مُتخفيًا وأنت تسلك تلك الأحراش. أجاب الشيخ: لا...
فكرر الجندي سؤاله بصيغة أخرى، فقاطعه الشيخ قائلاً: قلت لك لم أسمع ولم أر ولم ألحظ أي شيء، كنت أبحث عن دابتي الشاردة.. قل لي ماذا تريد بوضوح وإلا دعني وشأني!!
قال له: نريد الشيخ صالح العلي ومن معه، فإذا كنت تعرف عنه شيئًا قله لنا، وسنعطيك ما يكفي لشراء عشرة دواب بدلاً من دابتك الضائعة.
فقال له الشيخ صالح بهدوء مُتناه: وهل تعتقد أنني كنت أتجرّأ على الإقتراب منكم، لو كنت أعلم شيئًا عن هذا المتمرد العاصي الذي تتكلمون عنه!!
فانتهره الجندي ببندقيته وصرفه..

وبعد أيام.. وقرب (متنين)، وفي مكان يبعد عنها مئات الأمتار فقط، كان اللقاء حارًّا بين المجاهدين الأبرار، وتمّت المشورة على أن يتوزعوا على عدّة بيوت، فكان نزول (الشيخ صالح والمجاهد سليم صالح) في بيت المرحوم (سليمان الجابر)، الذي استقبلهما استقبال الأوفياء المخلصين، وأكرم في ضيافتهما وقال: (أنتم في بيوتكم وبين أهلكم ومحبيكم وكلنا فداء لكم).

وبعد اجتماعات متكررة للثوار خارج القرية، رأى الشيخ صالح أن يرسل مرافقه (سليم صالح) لمقابلة المجاهد (إبراهيم هنانو) في (جبل الزاوية) لاطلاعه على واقع الحال وأخذ رأيه في إمكانية إعادة إشعال الثورة من جديد، فتوجّه المرحوم سليم صالح إلى الزعيم هنانو وقابله ساعات طِوال، تمخّضت عن عزم الطرفين على مقابلة (مصطفى كمال باشا) في تركيا لطلب السلاح والمعونة -مُذكّرين بما جاء في رسالته آنفة الذكر- وتوجّه (سليم صالح) ومعه (محمود المصري) رسول هنانو إلى مصطفى باشا فلم يستقبلهما مصطفى كمال، بل أعطى أوامرًا بطردهما خارج حدود بلاده.. فعاد الرّسولان إلى زعيميهما خائبي الأمل مكسوري الخاطر، وحينئذ تأكد للشيخ ماكان يتوقعه من نوايا (مصطفى كمال)، إذ كان يتقرب من الثورة عارضًا مساعدته للضغط على الفرنسيين كونهم من الحلفاء أعداء الأتراك ليس إلا...

ولما تحققت مطامع الأتراك في (الأناضول)، وجلت القوات الفرنسية عن تركيا، وصَفَت الأجواء لحكومتهم، عادوا إلى عدائِهم القديم لكل ما هو عربي، وأيقن الشيخ صالح بعد ذلك بأن الثورة لم تعد قادرة على الوقوف على قدميها، ورغم كل ذلك ظل مُصَمّمًا على الإنتظار، لعلّه يجد طريقةً لإنعاش الثورة وتجديدها.

وعندما استبدّ به الشوق وَلَجَّ به الحنين توجّه إلى جبل (الشيخ حيدر الضهر)، وقضى أيامًا طِوالاً مُختبئًا بين صخوره المنيعة وأشجاره الكثيفة، وكان يتردد دائمًا على أماكن قريبة أكثر فأكثر من قريته، حيث بيوته وأسرته وأهله ومُحبيه.. وحدث مرة أن زار قبر والده في (المريقب) في وقت متأخر من الليل -والناس والجنود نيام- لكنه كان مُمعِنًا في التنكّر إمعانًا شديدًا، واقترب من ضريح والده فقبّله وقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، وبدون خوف أو وجل توضأ وصلّى، وعندما أشرف ضياء الفجر على البزوغ وهمّ على الإنطلاق، لفتت نظره بيوته التي احتلها الجنود، ورأى الجيش مُوَزَّعًا في كل مكان، فداخله شعور الخوف على حياة رجاله المُخلصين وجُنوده المُشرّدين، وقد استباح الفرنسيون حُرمة أمن أهاليهم وأُسَرِهم، وأدرك الشيخ أن حال قريته حال ينطبق على كل قرية ينتمي إليها المجاهدون، فلا بد -والأمر كذلك- من أنّ الفرنسيين يُعاملون الأهلين شر مُعاملة، بعد أن نهبوا قُراهم ثم أحرقوها، وعذّبوا أجسادهم ثم أعدموها، وتفنّنوا في الأذى وضروب الإنتقام ما شاء لهم التفنن والإنتقام.. وأوشك الشيخ على الإستسلام ليُريح ويستريح، لكنه لم يستطع أن يقبل بهذا الذل وسقطت دمعة من عين الشيخ، وهو يبتعد ونفسه تقطُرُ ألمًا وحُزنًا.

  • 1 راجع: من الإحتلال حتى الجلاء: تأليف الدكتور نجيب الأرمنازي.