الجُمُعَة 16 كانون الثاني.

أُضيف بتاريخ الخميس, 21/01/2016 - 11:30
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 16\ كانون الثاني \ 2015.

الخُطْبَةُ الأُوْلَى: العَدْلُ، وَمَتَى يُوصَفُ الرَّجُلُ بِالعَدْلِ، وَمَا مَعْنَى غَضِّ الصَّوتِ فِي مَقَامِ النُّبُوَّةِ.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: قَضَاءُ الحَوَائِج، وَأَسْبَابُهَا، وَتَأَخُّرُ إِجَابَةِ الدُّعَاء، وَوُجُوبِ حَمْدِ اللهِ عَلَى تَعْجِيْلِ قَضَاءِ الحَاجَةِ وَعَلَى تَأْخِيْرِهَا؛ لأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

  من الصفات التي يرغبُ كُلٌّ مِنّا فيها، صِفةُ العَدل.
من الصفات التي يبحثُ عنها جميعُ الناس، صِفةُ العدل.
ويتمنّى كُلّ إنسان أن يكون له نصيبٌ من تلك الصِفة. أن يُقال فيه إنّه إذا نطق كان عادلا، وإذا حَكَمَ كان عادلاً، فإنَّ أشَدَّ الأشياء عاقبةً في سوئها هي الظلم.

  وصفة العدل في حديث الإمام الصادق عليه السلام حين سُئِلَ عن صِفَةِ العَدلِ في الرّجُل، متى يكونُ موصوفاً بها؟ ومتى نَعُدُّهُ عادلاً؟ وكيف لنا أن نتحقّقَ عَدلَهُ؟ سُئِلَ عليه السلام عن صفة العدل من الرّجل، قال: (إذا غَضَّ طَرْفَهُ عن المَحارِم، ولِسانَهُ عن المآثِم، وكفّهُ عن المَضارِب).

  إذا كان الرجُّلُ يَغُضُّ طَرفَهُ عمّا حُرِّمَ عليه، ويمنعُ لسانهُ أن يخوضَ في الباطِل، وأن يُصبِحَ سبباَ لاكتساب الآثام، وإذا مَنَعَ كَفَّهُ عن الظُّلم، أن يظلمَ أحداً، أو أن يأخُذَ ما ليسَ لهُ بحق، فقد اجتمعت فيه الخِصالُ التي تجعلُهُ ممّن يُوصفُ بالعَدل (أن يغُضّ طَرْفَهُ عن المَحارِم، ولِسانَهُ عن المآثِم، وكفّهُ عن المَضارِب).

  ولا يكون ذلك الغَضُّ في شيءٍ واحد حتى تجتمع فيه أُمورٌ شتّى، ولقد جاء في كتاب الله عز وجل ما يدُلُّ على أنَّ المُراد مِن غَضِّ الطَّرفِ عَمّا حَرَّمَ الله سبحانه وتعالى في قوله { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} النور (30)
وفي قوله تعالى {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} النور (31)
وكذلك في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ} الحجرات (3)
بعد { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ} و {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ} ثم ما جاء في سورة لُقمان يُبيّنُ ما وَصّى به لُقمانُ ابنَهُ {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} لقمان (19).

  كيف يكون غَضُّ الصَّوت بعدما بيّنَ اللهُ سبحانه وتعالى صِفةَ الذين يَغُضُّونَ أصواتهُم إجلالاً لمقام النبّوة بعدما نهى أن يرفعوا أصواتهُم فوق صوتِه، وقد مَضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسَلّم، والقُرآن كما تعلمون يَصلُحُ للماضي ويَصلُحُ للحاضِر ويَصلُحُ للزمن الآتي.
فكيف يكون في هذه الأيّام النّهيُ عن رفع الصوت فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسَلّم؟
وكيف يكونُ الغَضُّ في مَقامِ النبوّة، ومَقامِ الرّسالةِ في هذه الأيّام؟

  إنّهُ ألاّ يرتفعَ أحدٌ فوقَ ما حَدّهُ الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسَلّم، والذي يَغُضُّ صوته عند رسول الله هو الذي لا يتجاوز ما جاء به صلى الله عليه وآله وسَلّم، ولا يتعَدّى ما حَدَّهُ اللهُ تعالى ونقلهُ نبيُّهُ صلى الله عليه وآله وسَلّم إلى العِباد، يكون حينئذٍ من الذين امتحن الله عز وجل قلوبَهُم للتّقوى.

  وإلاّ لو كانت الحال إخباراً بِما مَضى دون أن تكونَ نَهياً وأمراً وتبييناً لما سيكون، يكون بهذا كلامنا يُناقِضُ ما جاء من أنَّ القرآن الكريم فيه نبأُ الذين كانوا قبلكم، وفيه نبأُ الذين يكونون مِن بَعد.

  الذي يبحَثُ عن العَدل إنّما هو الذي تجتمعُ فيه هذه الصّفات، لأنَّ العَدل من دعائم الإيمان في حديث أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام (العدلُ مِن دعائمِ الإيمان)، والعدلُ لهُ شُعَبٌ، تلكَ الشُعَبُ التي تتفرّعُ من العَدل والتي يفوقُ عليها العَدل في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (والعدل عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَغَمْرَةِ الْعِلْمِ) حين يكون الإنسان قد قرأ ثم تأمَّلَ ما قرأهُ وتَدَبَّرَ ما وَصَلَ إليه، يكون بهذا ممّن غاصَ فهمُهُ حتّى بَلَغَ أوَّلَ درجة من درجات شُعَبِ العَدل التي يقومُ عليها.

  (عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَعَلَى غَمْرَةِ الْعِلْمِ) أن يكون لِكَثرَةِ ما قرأَ ولكثرةِ ما تَدَبَّر، ولكثرة ما تأمَّل، ممّن يُشَبَّهُ حالُهُ حينئذٍ بالذي غُمِرَ كما يكون الماء إذا فاض وغَمَرَ الأشياء، كذلكَ يكون الذي يطلِبُ هذه الصِّفَة قد غُمِرَ بالعلم.

  (يَقُومُ عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَعَلَى غَمْرَةِ الْعِلْمِ، وعَلَى رَوْضَةِ الحِلْم)، لأنَّ الذي يفهَم (مَن فَهِمَ فَسَّرَ جميع العِلم، ومَن عَرَفَ الحُكْمَ لم يَضِلّ، ومَن حَلُمَ لَم يُفَرِّط أمرَهُ، وعاشَ بهِ في الناسِ حَميداً).

  (غائِصُ الْفَهْمِ، وَغَمْرَةُ الْعِلْمِ، وَ رَوْضَةُ الحِلْم)، أي مِن باب التشبيه، الإتّساع في روضة الحِلم في صدر الإنسان، (وفي زهرة الحُكم)، حينئذٍ يكون الرّجُل ممّن يجوزُ أن نصِفَهُ بالعَدل. إذا كان (غائِصَ الْفَهْمِ، وَعَلَى غَمْرَةِ الْعِلْمِ، وعلى زهرة الحُكم، وعَلَى رَوْضَةِ الحِلْم)، قد اجتمعَ فيه أنّهُ تأمَّلَ وتَدَبَّرَ كتاب الله عز وجل وسُنّة نبيّه ص وآله وسلّم، حتّى غَمَرَهُ العِلم فكان من الذين يخافون أن يُذنِبوا، ومن الذين يخافون أن يُخطِئوا، ومن الذين يخافون أن يكونوا ممّن تَعَدّى حَدّاً من حدود الله، فإنَّ ذلك يُرشِدُهُ ويقودُهُ إذا حَكَمَ، إلى أفضَلِ الأحكام وإلى أعدَلِ الأحكام، وأن يكون حليماً لأنَّ ذلك مِن شُعَبِ العَدل الذي يُعَلّلُ كُلُّ شيءٍ منها نتيجةَ الأمر وعاقِبَتَه، لأنَّ (مَن فَهِمَ فَسَّرَ جَميعَ العِلم) ولَم يصعُب عليه شيء لأنّهُ يُصبِحُ مِمَّن عرَفَ أنَّ لِكُلِّ شيءٍ قاعدةً فهو يَبني على تلك القاعِدة، إذا غاص فَهْمُهُ وإذا غَمَرَهُ العِلم. لأنَّ (مَن فَهِمَ فَسَّرَ جَميعَ العِلم)، إذا وقفَ أحدُنا عند هذه العِبارة استعظَمَها وقال كيف يُمكِنُ لأحدٍ أن يُفَسّرَ جميع العلم؟! هذا يعني أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُهَيّءُ له، ويُيَسِّرُ لهُ أن يستوعِبَ ما يقرأ وأن إذا تَدَبَّرَ ما قَرَاَ لم يكُن مُستصعَباً عليه فَهمُهُ، لأنَّ اللهَ عز وجَل علِمَ مِن قلبِهِ وعَلِمَ مِن نِيَّتِهِ ومِن عَمَلِهِ أنَّهُ يطلُبُ العِلم ابتغاء وَجهِ اللهِِ تعالى.

  فإذا أحَبَّ أحَدُنا أن يكون بعيداً عن الظُّلم، قريباً من العَدل فليجتهد في أن يغُضَّ طرفهُ عن المَحارِم، ولِسانَهُ عن المآثم، وكَفَّهُ عن المَظالِم، فإنَّ الظُلم –كما تعلمون- ظُلُماتٌ يوم القِيامة.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يَعصِمَنا مِنَ الفِتَن، وأن يُجيرَنا مِن النّار، وأن يُنزِلنا منزِلةَ المُستغفرين التّائبين، وأن يجعلنا من الذين أنابوا إليه.....

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  لكُلّ إنسانٍ مِنّا حاجةٌ يسألُ الله سبحانه وتعالى قَضاءَها، وقد تكونُ لهُ في كُلّ يومٍ حاجةٌ يسأل الله سبحانه وتعالى قضاءها، وقد يُعَجّلُ الله سبحانه وتعالى قَضَاءَ الحاجَة، وقد يُؤَخِّرُها لأنّهُ سُبحانه وتعالى أعلَمُ بِما ينفَعُ عِبادَه، وأعلَمُ بما يُصلِحُ أحوالَ عِبادِه.

  ولكنّ الإنسان بطبيعتِهِ يميلُ إلى الإستعجال في كُلّ شيء، يميلُ إلى العَجَلَة، فإذا دعا وأخَّرَ اللهُ سبحانه وتعالى إجابةَ دُعائه، تَحَيَّرَ في أمرِهِ، ورُبّما ضَجِرَ، ورُبّما تَأفَّف!

  يقولُ الإمام الصادقُ عليه السلام: (قضاءُ الحوائج من الله تعالى، وأسبابُها -بعد الله- العِباد تجري على أيديهم).

  أسبابُ قضاءِ الحَوائج بعدَ الله سبحانه وتعالى هم عِبادُ الله (فما قضى اللهُ عز وجل من ذلك فاقبلوه من الله بالشُكر، وما زَوَى عنكم فاقبلوه عن اللهِ بالرّضى والتسليم والصبر، فعسى أن يكون ذلكَ خيراً لكم، لأنّ الله أعلم بما يُصلِحُكم وأنتم لا تعلمون)، ولقد جاء في كتابه الكريم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} آل عمران (66).

  إذا رَغِبَ أحَدُنا بأمر ثم تعَسَّرَ ذلك الأمر، فمن الواجب أن يكون على يقين أن ذلك ممّا غاب عنه سببه ولكن في قضاء ذلك الأمر أو تأخيره رحمةً من الله عز وجل، إنّ في قضائه أو في تأخيره رحمةً من الله لأنّه سبحانه وتعالى أعلم بما يُصلحُ حال عِباده.

  ألم يقُل في كتابه الكريم { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ} الشورى (27).
لو أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى بسطَ الرّزق لبَغَى العِباد، لو أنّه جعل الرزق عليهم مِدراراً لجاؤوا بما يُوصِلُهُم إلى غضب الله مكان أن يوصِلَهُم إلى عفوه وإلى رِضاه.

  لو أنّه سبحانه وتعالى بسط الرزق وأخذَ كُلٌّ ما يُريد لبَغى الناس، ولاعتدى الناس، ولكنّه سبحانه وتعالى يجعل نزول الرّزق بقدرٍ، نحن نجهلُ سبب ذلك التقدير، ولكن ما مِن أحدٍ إلاّ ويعلم إذا نظر في نفسه لو أنّهُ مَلَكَ كذا وكذا ماذا كان يفعل، ولو أنّهُ بَلَغَ من الجاه كذا وكذا ماذا كان يفعل.

  إذا تأخَّرَ قضاءُ الحاجَة، أو تأخَّرَت إجابةُ الدُّعاء، فهذا من رحمة الله عز وجل، وهذا في حِكمةِ الله عز وجل، وفي علم الله عز وجل، الذي لا يستطيع العِباد أن يعرفوه ولا يستطيع العباد أن يَبلُغُوه.

  لذلك من الواجب أن يكون شُكرُنا لله عز وجل على كُلّ حال، إذا قضى ما سألناه، وإذا تأخَّرَ قضاءُ ما سألناه، لأنَّ فيه مصلحَةً لا نستطيعُ إدراكَهَا.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصّابرين الذين إذا سألوا الله عز وجل فأعطاهُم كانوا من الحامدين، وإذا سألوه فمنعهم كانوا من الرّاضين، من الذين يوقِنون أنَّ في ذلك خيراً لهم، وأنّ في ذلك رحمةً لهم، وأنّ في ذلك حُسنى عاقبةٍ لهم.....