خطبة الكتاب (الجزء الثاني)

أُضيف بتاريخ السبت, 06/11/2010 - 13:44

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي دلّ على وجوب قِدَمِه بحدوث الممكنات، وعلى وجوده بذاتية الصفات، وعلى جوده بإفاضة الخيرات، وعلى قدرته بعجز الكائنات، وعلى بقائه بفناء المُحدثات، وعلى عدلهِ بإنصاف المخلوقات، لم يكوّن الخلائق لحاجته إليهم، بل أوجدهم تفضـّلاً عليهم، وإخراجهم من العدم إلى الوجود وإظهارهم من الغيب إلى الشهود، فهو الأوّل قبل إيجاد كل موجود، والآخر بعد فناء كل محدود، الظاهر بإفاضة الخير والجود، والباطن عن الإحصار والقيود، تقدّس بذاته عن الشريك والعَديل، وتنزّه بصفاته عن النظير والمثيل، وعلا بآياته عن التشبيه والتعطيل، وسما بمكرماته عن الإنتقال والتحويل، ليس له صفة تُنال، ولا حدّ فتُضرب به الأمثال، ولا نعت فيلحقهُ الزوال، ولا جنس فتغيّره الأحوال، ولا مادّة فتسبقه الأزال، ولا نوع فتشابهه الأشكال، بل انفرد بالعزّة والجلال، واتّصف بالعظمة والكمال، أحمدهُ تعالى على كل حال، وأستعين به في سائر الأحوال، وأعبده في الغُدوِّ والآصال، واشهد أنّ محمداً عبده ورسوله الذي أرسله بالبيّنات وكرّمه بالمعجزات، وفضّله برفيع الدرجات، وأنزل عليه من السوَر والآيات، ليوضِحَ لأمّتهِ المُبهمات، ويُرشدهم إلى طريق النجاة، صلى الله عليه وآله الهُداة، وصَحبِهِ الثُقاة.

أمّا بعد

هذا هو الجزء الثاني من كتابنا " المسلمون العلويون بين مفتريات الأقلام وجور الحكّام "، وهو إتمامٌ لما بدأناه في الجزء الأوّل من دفع الشبهات عن هذه الطائفة المسلمة، ودحض المفتريات بالأدلة المُحكمة.

هذه الشبهات والمفتريات كانت وما زالت تنصَبّ انصباب السيل الجارف على كاهل المسلمين العلويين، وذلك تبريرٌ مُصطنع للمجازر الوحشية التي اقتُرفت بحقّهم مِن قِبَل الحُكـّام الطغاة، عبر سائر العصور ومن مختلف الجهات، لا لشيء إلا لتمسّكهم بحبل الله المتين الذي أمر بالإعتصام به، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب.

إنّ المنصفين يعلمون خفايا التاريخ وزواياه المظلمة وكيف كتبه المؤرخون وأنّه أوّل ما دُوِّنَ على الأغراض والأهواء من دون تحقيقٍ وتمحيصٍ، ومن أراد استجلاء هذه الحقيقة الثابتة فما عليه إلا أن يُراقب ما يجري في هذا العصر من الأحداث العديدة وكيف تتناقض وسائل الإعلام في نقلها إلى الرأي العام فسيصل إلى نتيجة حتمية تجعله يشكّ ويرتاب في كل ما يُكتب ويُذاع، وهو شكٌ في محلّه لا يُلامُ عليه بل هو من أولويات قواعد العلم أن يَشُكَّ الإنسان العاقل فيما يسمع ويقرأ، ثم يُمحّص ويُدقق ليعرف الحق من الباطل ويُميّز الخبيث من الطيب، ليكون مُرتاح الضمير فيما يختزنه من المعلومات والأفكار عن الآخرين، لا أن يُقلّد من كان قبله من أصحاب الأهواء والغايات فيُتيح لمرض الماضي أن ينتقل من خلاله إلى الحاضر، فيعود حاضرنا كماضينا مُظلماً عفناً يُسيطرُ الجهل به على العقل والضمير.

فما من كتابٍ يُؤخذ به بالتسليم اليقيني الكُلّي كمصدرٍ للحق إلا كتاب الله، أمّا ما دونه فلا بد من أن يُحال إلى التمحيص والتدقيق حتى يُطمئن إليه، فالكتب التاريخية التي سجّلها الأوائل وخصوصاً في العصر العبّاسي، والعقائد الدينيّة التي نسبوها إلى غير طوائفهم، فيها الكثير من التكهّن والرجم بالغيب، ولا سرّ لهذا التهافت إلاّ الهوى والجهل والتعصّب، والذي هو من أخطر آفات المجتمع والذي يعود إليه بالتخلف فالإنحلال فالزوال.

والمؤسف أنّ الكثير من القرّاء يُصدّقون الكاتب، ويؤمنون بأقواله تلقائياً وبسرعة البرق، بل يجدون فيها اللذة والمتعة إذا نَسَبَ الخُرافة والسَخافة إلى طائفةٍ لا ينتمونَ إليها هم وآباؤهم الأوّلون.

هذا هو حال العلويين، فما كَتَبَ عنهم كاتب أو أرّخ لهم مؤرخ إلاّ واعتبر كلامه نصّ مُحكَمٌ لا يُجادل، وما ذلك إلا لجهلٍ عند قومٍ مقلّدين وهوىً عند آخرين متعصبين.

وما سبب كتابتنا في هذا الموضوع إلا لأنّ الجهل لم يزل متفشياً عند الكثيرين، وذلك من جهة تسليمهم لأقوال المُغرضين وما نمّقوه من الزور المُبين، ولأنّ الأقلام الآثمة ما زالت مأجورة لقومٍ مُفسدين تبث سمومها حتى هذا الحين، وعلى هذا فالتـُهَم لم تزل قائمة في نفوس الكثيرين من الذين لم يمتلكوا نعمة تمحيص الحقائق وتمييز الأقوال.
ولو أنّ الأمر توقف على ما كتبه القدماء لسكتنا واكتفينا مؤونة الردّ وتحريك القلم في هذا المجال ولانصرفنا في الكتابة إلى أمور أخرى، ولكن الكتابة ضد هذه الطائفة لم تنقطع في وقت من الأوقات، ولم تخمد في عصر من العصور، وهذا ما دعانا إلى ملاحقة الأقوال ودحضها والرّد عليها خوفاً من أن يَظُنَّ البَعض بأنّ سُكوتنا دليلٌ على رضانا عمّا يُكتب ضدنا.

وألفتُ النظر بأننا حينما نتعرّض لكاتب ما، فهذا لا يعني أنّنا نهاجم الطائفة التي ينتمي إليها والمذهب الذي يتمذهب به، بل نهاجم فرداً شاذاً عن آداب الإسلام وأصوله الذي يَنهي عن تكفير أبنائه.

ولا يخفى على أحدٍ أنّ المسلمين العلويين لم يتعرضوا يوماً لأي طائفة من الطوائف في كتاباتهم وما ذلك إلا دليلاً على أخلاقهم الفاضلة وآدابهم الإسلامية المتأصلة في نفوسهم، وفهمهم الصحيح لهذا الدين الحنيف والتزاماً منهم وإيماناً بما جاء في كتاب الله الذي يأمر بالمعروف ويَنهي عن المُنكر في كثير من آياته.

وإننا إذ نُعلنُ إيماننا وإسلامنا فهذا لا يعني أنّنا لم نكن مسلمين من ذي قبل كما يحلو للبعض أن يقول بل ذلك من قبيل إصرارنا على هذا الإيمان ورسوخه في قلوبنا وقلوب آبائنا وأجدادنا الذين تفانوا في رفع رايته وضحّوا بالرخيص والغالي للذود عن حياضه، وتكراراً للشهادة الواجب إعلانها في كلّ حين.

ولا يهمّ إن صدّق البعض مِنّا ذلك أم لم يُصدّقوا فهذا هو الحق نقوله ونعلنه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وإنّ الأنبياء كُذِّبوا في الماضي وحُوربوا، وما زادهم ذلك إلا رِفعةً وشموخاً ﴿ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .

وفي هذا الجزء الثاني نتناول بعض الكتـّاب المعاصرين الذين تعرّضوا لهذه الطائفة بدافع التعصّب والجَهل والتقليد، وقسمٌ آخر كتب بحجّة الدفاع عنهم فإذا به يزيد الطين بلّة والمريض علّة، وقبل الخوض في هذا المِضمار لا بُدّ من الوقوف على بعض القضايا الهامّة تمهيداً لبحثنا وإتماماً للفائدة منه وذلك من خلال إظهار بعض الحقائق التاريخية الغامضة، التي أدّت غلى تشويه الوقائع، وتحريفها، حتى وصلت إلينا بصورة معكوسة أنتجت تغييراً جذرياً في المفاهيم.