مقالة عن العلويين للأستاذ عبد اللطيف يونس

أُضيف بتاريخ السبت, 06/11/2010 - 13:44

القارئ الكريم، هذا المقال ورد في كتاب المسلمون العلويون بين مفتريات الأقلام وجور الحكام لمؤلفه فضيلة الشيخ حسين محمد المظلوم .
وتجد فِهرس الكتاب على يمينك.
(إدارة موقع المكتبة الإسلامية العلوية)


وقال الأستاذ عبد اللطيف يونس:
إنّ في تاريخ العلويين - نكبتين عظيمتين -

ولم يكن الصليبيون قوّة حربية مُخيفة بتنظيمها وتدريبها على فنون القتال وإنّما كانوا كالسيل الجارف يقضي على كل ما يعترض طريقه دون استثناء، وقد مرّ هذا السَيل على بلاد كيليكيا التي كان يسكنها قسمٌ كبيرٌ من العلويين، فتركها قاعاً صفصفاً، والذي استطاع أن ينجو من حرب الصليبيين كان يلتجأ إلى مِصر أو إلى هذه الجبال التي كانت يومئذ غنيّة بالأحراج والغابات.

ولو لم يكن للمسلمين العلويين ما يُدلون به على إخوانهم ويفخرون فيه إلا مقاومتهم للروم عدّة أجيال والخسائر الفادحة التي لحقتهم من جرّاء ذلك والتي لم يسبق أن تعرّض لمثلها شعب من الشعوب لكفى .

ومن أبرز الشخصيات العلوية في هذه الغمرة المؤلمة من تاريخ العلويين والذين كان لهم مواقف مشهورة في حروب الصليبيين، هم:

  • الشيخ بدر الغفير.
  • وسعد بن دبل.
  • ومنصور الغقابي حاكم قلعتي القدموس والخوابي.
  • ومعروف بن جمر حاكم قلعة صهيون واللاذقية.
  • والشيخ أحمد الشهيد.
  • والشيخ راشد وغيرهم الكثيرون.

وأما النكبة الثانية التي حَلَّت بالعلويين كانت على يد السلطان سليم العثماني - ذلك السفاح الذي أرغم بعض صَنَائِعِه من العُلماء على إصدار فُتيا بهدر دم العلويين - فكان من جرّائها تلك الفظائع التي يندى لها جبين الإنسانية خجلاً وحياءً، وتُعدّ نقطة سوداء لا في تاريخ الترك فحسب، بل في تاريخ المدنية القديم، وأشدّ ما يُؤلم المسلمين العلويين ويَجرح كبريائهم العربي إجراء تلك الفظائع بإسم الدين، وإقامة تلك الأعمال باسم الإسلام والله يعلم والمُنصفون يعلمون : إنّ الإسلام بريء من ذلك العمل الفظيع. ولكنه التعصّب - العنصري الديني - ولكنه الجهل الذي يرجع بالإنسان إلى الحيوانية والذي يضعه في الدرك الأسفل بين الهمج والمتوحشين.

ولم يقتصر السلطان سليم على تلك المجازر الرهيبة والفظائع المُنكرة التي مَثّل بها في العلويين، بل استجلب العشائر التركية من الأناضول وكان يُقدّر عدد أفرادها بمليون وأسكنهم في السهول المُحيطة بمعاقل العلويين من جبال طوروس إلى جبال عكار، وسلّطهم على العلويين المُحاصرين بجبالهم بُغية إفناء هذا الشعب عن بُكرة أبيه، وهي فكرة خبيثة كانت ترمي إلى غرضين في وقت واحد:

  • تتريك هذه البلاد أولاً.
  • والقضاء على العلويين ثانياً.
  • وقد فشل الغرضان في هذه البلاد ولكنهما نجحا في الأناضول حيث احتشد فيها بعدئذ ملايين من الأتراك والأرمن والأكراد.

وممّا يَدُلّك على أنّ فكرة السلطان سليم كانت - شعوبية - استمالت الدين لمقاصدها وأغراضها، هَدْمُه تربة يزيد بن معاوية في الشام، وأخذه الشبكة الذهبية التي كانت موضوعة حول قبر - يزيد - إلى تربة - محي الدين العربي - بعد أن حسّن تلك القرية، وجعلها لائقة بالصوفي العظيم، فدل بهذا العمل على أنّه لم يَقم بما قام به ضد العلويين عن اعتقاده كفر هؤلاء، وإنما استغل تكفيرهم لأغراضه السيئة ومقاصده التوسيعية الكبيرة بعد أن لاقى من عنف مقاومتهم مالاقى، ورأى من شدّة بأسهم واتخاذهم واستماتتهم في سبيل عروبتهم ما رأى، وهذا وحده دليل كاف على أنّ تلك المجازر التي حصلت في العلويين لم تكن - سنية علوية-   وإنما كانت - عربية تركية -   لأن السنيين العرب قد ناصروا إخوانهم العلويين العرب كما ألمعنا إليه.

وقد استطاع السلطان سليم أن يَحشر العلويين السالمين من أذاه هذه الجبال الوعرة الضيقة، ولا يستطيع أحد الخروج من بينها إلا إذا كان يُفضّل الموت على الحياة. فالتُرك مُحيطون بجبالهم إحاطة السوار بالمِعصم، وقد عمّروا المُدن، واستوطنوا السواحل وبنوا على منافذ الجبال العيون والأرصاد، وكثيراً ماكانوا يُهاجمون العلويين في عقر دورهم فيقتلون ويُدمّرون ويَنهبون حتى اضطر أكثر العلويين إلى سكنى المغاور والأنفاق.

واستعربت بعض القبائل التركية، وهاجر بعضها الآخر، وفُكَّ الحصار المادي عن الجبل العلوي، ولكنّ الخوف الذي أنتجه ذلك الحِصار الطويل جعل العلويين في حصارٍ دائمٍ من مخاوفهم وأفكارهم وذكرياتهم وانكمش العلويون على أنفسهم في هذا الجبل الثاكل المُدَمّى، لا يخرجون منه ولا يسمحون لأحد بالدخول إليه واستقرّ في نفوسهم عداءٌ رهيبٌ لأنصار الحكومة التركية، عداءٌ تغذّيه الذِكريات ومافيها من ألمٍ ورُعبٍ ويَستمد قوّته من الأحداث التي لا تزال آثارها الدامية تشهد بقسوة الإنسان وفظاعة الإنسان.

واتسعت دائرة الحضارة والمدنية التي غمرت أنحاء العالم ولكنها توقفت عند أبواب هذا الجبل لا تجرأ على الدخول إليه، وتكسّرت أمواجها الجبارة الصاخبة على أقدامه الثابتة على شاطئ البحر، وهو في نفوره وشموخه لا يريد أن تصله بالعالم الناقم عليه أوهى الصلات فكان أشبه بالجزيرة العاتية وسط هذا الخضم المتلاطم الأمواج.

وتغيّرت حدود وتمزّقت خرائط ودخل على هندسة الكون نظامٌ جديد، والعلويون في انكماشهم وقعودهم بين هذه القنن الجرداء لا يتركونها في صباح أو مساء. تبدّلت الأزياء وتطوّرت ألوان المعيشة واختلفت مناهج التعليم والتدريس، وانتقلت الحياة من طور إلى طور ودخلت في قالب جديد لا عهد للناس به من قبل، والعلويون لا يزالون في انكماشهم على أنفسهم ونفورهم من كل ما هو خارج حدود جبلهم الأشم وهكذا فقد كان العالم يتقدّم والعلويون في محافظة وجمود يغذّيها الحذر الشديد.

ولم تخلُ هذه الغمرة المؤلمة من مُخلصين عمدوا لإصلاح ماأفسده سِواهم ولكن كان أعمق من أن تشفيه المراهم الخارجية، ولم تتوفر الأدوية التي باستطاعتها التغلب على كل مرض ضمن دائرة الإمكان.

وبقيت الحالة في العلويين -كما بيّنا- إلى نهاية الحرب الكُبرى، وإقدام الفرنسيين على احتلال هذه البلاد، فوقف العلويون من الأجنبي ذلك الموقف المعروف الذي لا يُنكره إلا كل مُكابر، وبقي قائدُ ثورتهم الجبارة - الشيخ صالح العلي - ثلاث سنوات ونصف، وهو في صياله ونضاله المشهورين فكانت ثورته تلك أطول وأعنف ثورة عرفتها البلاد العربية في تاريخها الحديث ومع ذلك فلم يَنْبَرِ مُؤرّخٌ واحدٌ للحديث عن تِلكُمُ الثورة بما تستحقه من العناية والإهتمام، بل إنّه لم يُشِرْ إليها إلا الأقلاء من المُؤرخين وفي لمحات وجيزة وخاطفة، وفي ذلك طَيْ صفحات مَجيدة من تاريخ الجِهاد المُقدّس لا غنى لشعب عنها وهو يَستمد غذاء حاضره من ماضيه، ولما تغلّب الحديد والنار على البطولة وألحق حكم الفرنسيين هذا الجبل حُكماً مباشراً وأنشؤوا له كياناً خاصاً وأقاموا بينه وبين الوطنيين في الداخل والساحل سياجاً من الحديد، وحاولوا حتى الإساءة إلى عقائده ومبادئه وتشويه تاريخه القومي الصريح متحدّين في ذلك تاريخ طائفة عمرها ثلاثة عشر قرناً محاولين أن يَبتلعوا هذه المئات من السنين كما يبتلع الجائع لقمة من الخبز على أنّ ادعاءهم وأراجيفهم لأَوْهى وأَوْهَم وأوهن من أن تثبت أمام مجهر الحقيقة وأحطّ من أن توليها شيئاً من الإهتمام والتفكير.